بلغت
القلوب الحناجر
في
الوقت الذي كنتُ وزملائي بانتظار التأشيرات والتذاكر، وبينما كنا نصحح مبحث اللغة
الانجليزية للامتحان الشامل لكليات المجتمع بمدرسة الأميرة عالية بجبل اللويبدة، وإذا
بالأخبار تأتي بما لا يسر صديقاً ولكنه طبعا يسر عدواً؛ هذه الأخبار تركزت حول حدث
شكل ضربة من الضربات المتتالية لتدمير مقدرات الأمة العربية و هو احتلال صدام حسين
للكويت.
ليس المقام
هنا لتبيان الرأي حول هذا الغزو الذي شرخ الصف العربي المشروخ أصلاً إلا من ورقة
التوت فقط، ولكن سيكون الحديث عن انعكاس هذا الحدث علينا كمعارين لدولة
خليجية ترتبط مع الكويت بمجلس التعاون الخليجي.
هذه الأيام
بلغت القلوب الحناجر. و انقسم الإخوة المعارون على أنفسهم: فمنهم من قال بأننا لن
نُؤخذ وراحت علينا لأسباب سياسية طبعا، حيث صُنف الأردن ضمن الدول الداعمة
لصدام. وقال آخرون سنذهب لأنه لا دخل للسياسة بالتعليم. وكانت وزارة
التعليم العالي (وزارتنا) بحيرة فجوابهم واحد اذا ما سئلوا " مش عارفين
والله". وبقينا في (حيص بيص) فلا الوزارة تعرف ولا يجرؤ أحد على سؤال السفارة
العُمانية. ولا ألوم الجميع لأن الأمر كان يجعل الحليم حيراناً.
لكن طبعاً من
يعرف عُمان وسياستها كما عرفناهم لاحقاً يعرف أنهم لا يمكن أن ينكثوا وعداً قطعوه
ولا عقداً أبرموه. نعم تم استدعاؤنا في آخر شهر أغسطس وأعطينا التذاكر وحدد موعد
السفر ليكون يوم 5 / 9 / 1990.
الرحلة
الى مسقط
صباح يوم 5 /
9 / 1990 غادرت البيت مصحوباً بأسرتي الصغيرة لوداعي بالمطار متوجهين إلى العاصمة
عَمَّان ثم إلى مسقط عاصمة سلطنة عُمان. لا أدري كيف وصلت و بأي وسيلة نقل
جئت لأن الفكر مشغول كمنولوج داخلي في التخطيط للمستقبل والتفكير بما تحمله الأيام
في العالم الجديد.
أما طفلاي
الصغيران محمد (2.5 سنة) وسمو (تسعة شهور) فكان لكل منهم نظرته في الرحلة؛ فمحمد
حقق أمنيته بالركوب على دراجة رقيب السير الأردني الذي كان موجوداً هناك بتلك اللحظة،
وكان فرحاً جذلاً ولا يعرف أنه سيعود إلى إربد برفقة والدته فقط. أما سمو
فكانت تتابع ما يجري بعينيها الصغيرتين فقط لأنها لم تكن قد درجت مشياً بعد وكأنها
تودعني.
لقد كان من
المفروض أن نسافر على متن طيران الخليج فلم يكن الطيران العماني قد باشر رحلاته، ولكن
ولسوء التخطيط الذي يصاحب الرحلات الجماعية عادة فقد فقدنا كل مقاعدنا ولم تحصل
المجموعة التي تضمنا على أي مقعد، وعندما ارتفعت الأصوات وجدنا من مثلنا عدد لا
بأس به من الذي فقدوا مقاعدهم لمسقط. أصبحنا في حالة ضياع ولم نجد من نكلمه أو
نشكوا إليه وكان أمرنا يعود بين الفينة و
الأخرى إلى موظفه دائمة الصراخ اسمها سوسن تعمل على طيران الخليج ( و
بالمناسبة عندما تم اقتسام طيران الخليج بعد تفككه كانت سوسن من حصة الطيران
العُماني، وكل ما في الأمر أنها غيرت الزي فقط، ولكن حنجرتها بقيت كما هي تصرخ على
كل شيء).
هنا كان لا بد
من فراق الزوجة والأولاد لأننا أيقنّا بطول المدة الباقية بعد أن طارت الطائرة، وبعد
وداع قصير بقينا نبحث عن مسؤول نكلمه إلى أن أطل علينا موظف من السفارة العُمانية
بالأردن. وقد بدأ (سلمه الله) أولاً بلومنا على تأخرنا على الطائرة ( لأن
الحق دائما على الطليان)، ونسي سعادته أن السفارة هي من حجزت التذاكر وأبقتها
عندها إلى أن دعتنا لاستلامها قبل السفر بيوم. المهم قال أنه سيبحث عن حل
فانتظرنا الحل.
نعم، أخيراً
جاء الفرج وهو تحويلنا إلى رحلة للملكية متجهة إلى مسقط اليوم الثاني صباحاً وضربوا
لنا موعدا الساعة الواحدة صباحاً. جلسنا (مجموعة المتأخرين) نتجاذب
أطراف الحديث ونسينا ما كان من مشقة الحضور والانتقال من مبنى إلى آخر بحثا عن
رحلة طيران تقلنا لأن المهم هو السفر حتى لو كان متأخراً أربعاً وعشرين
ساعة. وبمناسبة التأخير شهدنا الكثير من حالات التأخير هذه كل صيف عندما كنا
نسافر للأردن لأن طريقة الحجز كانت بأن تحجز الكلية التذاكر وليس نحن، وعرفنا بعد
ذلك أننا كثيراً ما نكون ضحية أن تسحب مقاعدنا وتعطى لركاب آخرين لسببين أولهما وأهمهما
هو أن الكليات لا تدفع فوراً ثمن التذاكر بل تأخذ إجراءات طويلة لذلك لم نكن ضمن
سلم أولويات مكاتب الطيران أو الموظف الذي يحجز التذاكر لأن الموضوع بالنسبة له
عمل يقوم به روتينياً وليس صاحب حاجة حقيقية؛ وثاني الأسباب هو أننا كموظفين لم
نكن نملك قرار تغيير شركة الطيران أو الموعد؛ لذلك لم يكن بمستغرب أن نمر بمثل هذه
الظروف وقد تنفسنا الصعداء لاحقاً عندما
غيرت الوزارة من طريقة الحجز، وأعطتنا 75% من قيمة التذكرة نقداً وتركت لنا حرية
الحجز. فأصبحنا نختار الرحلة واليوم والصُحبة كذلك، لأنهم كثيراً ما كانوا
يحشروننا بما كان يُعرف سابقا بالرحلات الجماعية وهي خاصة بالمعلمين وتنطلق من صلالة
الى عمان فوراً، و قد شكل هذا سبباً آخر لزحلقة تذاكرنا لحساب أشخاص يودون السفر
للأردن ليسهلوا عليهم ذلك. وبالمناسبة تحتاج الأنماط الشخصية للبشر في الرحلات
الجماعية لكتاب منفصل بما فيها من الطرائف والغرائب كالتي كان يقدمها المرحوم
الدكتور محمد توفيق البيجرمي على التلفزيون السوري بالقرن الماضي.
نعود بكم إلى مطار الملكة علياء لمتابعة الرحلة
الأولى إلى مسقط. وقبل الحديث عن الرحلة،
أود أن أسرد طرفة أضحكتنا كثيراً بالمطار؛ وهي أن أحد الزملاء كان يُغدق على المسؤول
العُماني عبارة " طال عمرك" كثيراً، وكان جاداً طبعاً ولا يلتفت إلى
تعليقاتنا وضحكنا حول الموضوع عندما كنا نقول له أنه على ما يبدوا قد كثف من حضور
المسلسلات الخليجية كنوع من التحضير لحياة الخليج. كذلك لم ألحظ اهتمام المسؤول
بعبارة زميلنا الكريم. أخيراً اقتنع الزميل أن " طال عمرك" لن
تنفعه فقد كان الزميل يأمل أن يجد له " طال عمره" مقعداً على رحلة الرابعة
عصراً ليصل قبلنا وربما يباشر عمله قبلنا كذلك. لهذا كنا نحن والزميل الكريم
على نفس الرحلة. وعند دخولنا مبنى الوزارة بمسقط صرفها كذلك لبعض الإخوة في
الوزارة، فهمسنا في أذنه " يا زلمة مش راح تنفع هون، اسكت" فسمع النصيحة
و سكت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق