الفصل
الثالث
الوصول
إلى صلالة
بهرتني أضواء
المطار الساطعة خارج المطار وداخل صالة القادمين فأصبت بما يعرف عندنا بلهجتنا
الأردنية (قومرت) أي أنني لم أستطع الرؤيا بعدها رغم أنني أرى كل شيء ولكن دون
إدراك كما يحدث عن توسع البؤبؤ للعين.
خرجنا من صالة
المغادرين فلا أذكر أنني وجدت أحداً أردنياً باستقبالنا، ربما لعدم معرفتهم بموعد
وصولنا كما أخبرونا لاحقاً، طبعا تبين أن مقولة ما كنا نعرف حُجة عامة نلجأ إليها
عند تقصيرنا أحياناً. وما أن خرجنا من الصالة حتى تقدم منا شخص عُماني تظهر
على وجهه طيبة القلب واسمه كما عرفت لاحقاً " أحمد عبد الرب" ليسأل هل
أنتم الدكاترة الأردنيين فأجابه زميلي الدكتور أحمد العودات بنعم، وبالتالي تجنبت
التوضيح أنني لستُ دكتوراً، وقد عرفت لاحقاً أنهم يطلقون كلمة دكتور على كل من
يدرّس بالكليات. ركبنا السيارة مع الأخ أحمد وأخذنا إلى شقتين بعمارة بوسط صلالة
تعود ملكيتها للشيخ عبد الخالق الرواس فوق ما كان يُعرف زمان بمحلات ديراج التي
تحولت إلى محلات السلمان. وكانت هاتان الشقتان تحويان بقايا أثاث ممن سبقنا ووُعدنا
أنهم سيغيرون الأثاث لنا لاحقا، و قد كان، ولكن بعد ردح من الزمن.
تلك الليلة
التقينا بالأستاذ جميل مناصره وهو يلعب الشدّة ببيت شخص أردني آخر من المعلمين وهو
أبو فاعور رحمه الله، و لا أدري كيف وصلنا إليه حيث أنني كنت تحت تأثير السفر،
وحدثنا عن الكلية والقسم .... الخ. وسأقفز
عن الحياة و الدخول للكلية لأنني أفردت له
فصلاً خاصاً، لكني سأنتقل الآن الى وصول الأسرة الذي كان بعد أربعين يوماً
من قدومي للسلطنة.
حضور
الأسرة
لقد كنتُ
فرحاً فرحاً شديداً بالعيش بصلالة، ولم يكن ينقص فرحتي إلا شيء واحد ألا وهو عدم
التئام شمل الأسرة معي. لقد تركتهم في أربد يتنقلون بين الأقارب حيث أنني
ارتكبت خطأ فادحاً وهو الخروج من الشقة وبيع الأثاث، رغم معارضة زوجتي لذلك ( يا
أخي هالستات لهم حِكَم مرات) لهذا لم تكن أمورهم على ما يرام هناك، خاصة بوجود
طفلين صغار ينتقلون من بيت كانوا هم أهلُه إلى بيت أصبحوا ضيوفاً فيه، والضيف
كما تعلمون يكون في أحسن حالاته عندما يكون خفيفاً، ويكون الضيف في قمة عطائه
عندما يغادر بسرعة. لست هنا بصدد الحديث عن طيب مقامهم هناك، فليس كل ما حدث
يسر البال وليس كل ما يُعلم يقال.
عندما علمتُ
بموضوع إعارتي لسلطنة عمان لم أستفسر عن الراتب ولكني استفسرت عن الأوراق المطلوبة
لحضور الأسرة مثل صور شخصية وصور جواز السفر وعقد الزواج وشهادات الميلاد، كنت
حريصاً على معرفة كل شيء، فلم أرد أن أتعرض لأي موقف يؤخرهم عني. وكذلك كان
أول سؤال سألته للفاضل الدكتور نائب مدير دائرة إعداد و توجيه المعلمين بالوزارة والذي
طلب الأوراق للبدء بالمعاملة من مسقط، ولكنه استدرك وقال" عندكم بصلالة مكتب
للهجرة والجوازات وستكون المعاملة من هناك أسهل و أسرع.
لذلك وبعد
أن أنهيت معاملة شؤون الموظفين بالكلية استفسرت وطلبت إحضار الأسرة وقدمت الأوراق،
ولكن الموظف قال لا يمكن إحضار الأسرة الآن حتى يأتينا ما يثبت أنك على الدرجة
الخاصة، وهذا يعني انتظار مدة لا تقل عن شهرين. هنا كان لا بد من الدخول على
سعادة المدير وقلت له " البركة بسيادتك" و هذا كان كافياً لسيادته أن
يذهب لموظف شؤون الموظفين ويقول له أن يبدأ بمعاملة جلب الأسرة، وعندما احتج
الموظف بعدم معرفته بالدرجة قال له المدير أنه اتصل بالوزارة و أخبروه بدرجتي.
فاطمأن قلب الموظف وسار المعاملة. طبعا وللتوضيح فإن قائمة أسماء المعلمين
كانت لديهم وكل حسب درجته، ولكن كان لا بد من استثمار الكرسي، فهي فرصة لا تتكرر
دائماً وتحدث مرة واحدة فقط وهي بداية التعيين، وهذا ما أطمئن به قلوب المعينين
حديثاً عندما يتذمرون بمثل هذا الموقف.
لقد كان طيف
الأسرة معي في كل مكان أزوره أو يأخذنا إليه الأستاذ جميل بسيارته المازدا الحمراء
التي أصبحت سيارتنا لاحقاً لأنني أعرف أنني سآخذ إليه الأسرة بعد حضورهم، وكنت
أعرف أن هذا المكان سيفرحهم وذاك سيضحكهم وآخر سيستغربون منه. بمعنى آخر كنت
أعد نفسي لأن أكون دليلاً سياحياً ناجحاً للأسرة عندما تصل. أذكر أنني كتبت
في أول رسالة خطية للمدام " إن صلالة مدينة جميلة جداً، ولكن كان يمكن أن
تكون أجمل بوجودك إلى جانبي"، وفي الحقيقة كنت أتخيلها في كل مكان أدخله إلى
جانبي. كنت أتخيل محمد وسمو يلعبان في كل حديقة أزورها.
كنت وزميلي
الدكتور أحمد العودات الذي حضر معي معاراً للكلية نسكن شقتين متجاورتين، وكان يحرص
على أن نبقى سويا معظم الوقت ويصر أحياناً على المبيت عنده بنفس الشقة؛ لقد
كان يمارس (الله يذكره بالخير) دور الأخ الأكبر لي لأنه كان يكبرني بأعوام كثيرة،
ويستغرب عندما كنت أشذ عن القاعدة في بعض المرات لأكون مع نفسي أو أبدي عدم الرغبة
بالجلوس بمجلس كما قال الشاعر عنه (بمجلس فيه نفوس ثقيلة)، إلا أنه مع ذلك كان لا
يمانع إذا توفر له البديل من الرفقة. لهذا كنت أستغل بعض اللحظات لأكون
على بلكونة الشقة لأنظر صلالة بالليل لأسطر لمنى الرسالة القادمة لأطمئنها عن
البلد التي ستكون فيها. ومن يعرف شارع النهضة بالمنطقة المقابلة للعمارة التي
نسكنها يعرف أنها مليئة بمحلات الخياطة، وهذا أول شيء لفت نظري عن صلالة، وكنت
أعرف أن هذا سيفرحها لكثرة شغفها بتفصيل الملابس. من المفارقات المضحكة أنني
اكتشفت أن هذه المحلات التي كنت أحدثها عنها إنما هي لخياطة الملابس الرجالية فقط
وبشكل خاص متخصصة بالدشداشة العمانية، أما الخياطة النسائية فكانت بمنطقة الحافة وأشهرها
خياطة الصداقة.
كنت دائما
ألاحظ قلق منى وشغفها للحاق بي فأزداد متابعة لمعاملة إحضار الأسرة كما يسمونها
هنا، وفي كل مرة أسأل يُقال لي المعاملة (بتحتاج ) وقت، وليس بالسرعة التي
تتمناها، وهنا كنت ألوم نفسي على عدم إعطاء المعاملة لدائرة إعداد وتوجيه المعلمين
بمسقط. ولكن حصلت المفاجأة التي تلخصت كالتالي:
ذات جمعة اتصل
الدكتور محمد علي الشبول (رحمه الله) وكان مرشحاً للإعارة إلى كلية نزوي بالدكتور
احمد العودات زميله ليسأله (كالعادة) إن كان بحاجة لشيء من الأردن، فقال له شكراً
و هذا الأستاذ طلال بسلم عليك، فطلب الدكتور أن يكلمني فسلمتُ عليه ورحبت به بعمان
وسألته سؤالاً عابراً من معه على الطائرة من المدرسين، فقال الدكتور أحمد صقر عميد
كلية نزوى والدكتورة عائشة حجازي عميدة كلية عبري للبنات وهناك معلمة أخرى اسمها
منى ولا يعرف أين تُدرِّس فقلت له هل تعرف أسمها كاملاً فقال نعم منى غانم
فأكملتُ له الاسم فرحاً دون أن يطلب وقلت له هذه زوجتي وهي ليست مُدرِسة، وأرجوك
أخبارها على العنوان التالي وأعطيته العنوان. كذلك قمت بالاتصال بزوجتي و أخبرتها
بالذهاب للسفارةالعمانية، فحصل المراد واستلمت التذاكر وحضرت إلى سلطنة عمان بعد
رحلة عناء من أربد إلى عمان العاصمة.
بالكيماوي
يا صدام
لقد كان رحلة
الأسرة على طيران الخليج ولهذا وجب التوقف بالبحرين. وعندما توجهوا إلى مطار
البحرين فوجئ محمد (2.5 سنة) بعدد من أفراد الجيش وربما كانوا من قوات الشرطة
البحرينية، فما كان من محمد إلا أن صار يصيح وينط ويهتف ( بالكيماوي يا صدام
بالكيماوي يا صدام) فضحك الجيش منه كثيراً وقالوا هذا أكيد من الأردن، مما خفف عن
والدته الحرج. طبعا تفسير هذا هو أن الأردن كانت تهتف لصدام ضد القوات
الأمريكية التي كانت تستعد لطرد صدام من الكويت بعد غزوه لها، وكانت الشعوب تُصدِّق
أن عند صدام الكيماوي اللازم لهذا، فهتفت له ليطردهم ويبيدهم بالكيماوي ولكن صدام
على ما يبدو آثر أن يعاملهم بالحسنى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق