الأحد، 14 أغسطس 2016

الطريق إلى صلالة - الفصل الثاني

الفصل الثاني

الوصول لسلطنة عُمان

في الساعة الواحدة من صباح يوم 6 / 9 / 1990 طارت بنا طائرة الملكية الأردنية إلى مسقط مفتتحة حياة جديدة لنا. نظرتُ إلى صديقي وزميلي فوجدته فد غطّ في نوم عميق بمجرد أن غادرت الطائرة أرض المطار وقد اضطررت إلى إيقاظه عندما أحضروا لنا طعام العشاء. لم أستطع النوم لأكثر من سبب فقد كانت هذه أول عهدي بالطيران لذلك كنت متوتراً جداً، وهذه حالات يندر فيها النوم خاصة إذا كان الطيران فوق منطقة ملتهبة حيث أشار لنا (مساعد الكابتن) أثناء جولة بين الركاب أننا نطير فوق منطقة التحالف حيث البوارج والطائرات الحربية؛ ولقد خف هذا التوتر شيئا فشيئاً ولم يلغه طبعاً بمجرد إحضار العشاء وربما كان سبب تقديم الأكل على الطائرات هو لتخفيف التوتر عند الركاب. وثاني هذه الأسباب هو القلق باللقاء الأول مع المسؤولين بالوزارة فهذه هي المرة الأولى لنا، وقطعاً شكل القلق على العائلة بالأردن السبب الثالث. وعلى العموم كانت رحلة جميلة لطيفة كنت فيها على ما يبدو الصاحي الوحيد لأن المضيفات ما تأخرن عن طلب طلبته وقد شربت القهوة أكثر من مرة أثناء الرحلة وخاصة عند الهبوط، لأن التوتر قلَّ فأحببت أن (أمنجه) أو أدلِّع نفسي شوية.

 وأخيراً تهادت الملكية الأردنية على أرض مطار مسقط وكان يُسمى مطار السيب" الدولي مفتتحة حياة جديدة لنفر أردني في بلدهم الثاني سلطنة عمان. نظر بعضنا إلى بعض، ومنا من كان يحاول أن يخفي سروره كعادتنا نحن الأردنيين، لأننا لا نريد أن نظهر بمظهر من يحتاج الوظيفة، لكن طبعاً كان هذا الذي يخفي سروره أسبقنا إلى باب الطائرة لولا أن دفعته المضيفة إلى الخلف لأن الأولوية بالنزول هي لأصحاب الفضيلة ركاب الدرجة الأولى.

دلفنا إلى باب الطائرة ثم السلم فإذا بنا كمن يدخل حمّام الساونا من شدة الحر وارتفاع الرطوبة، وكان هذا بداية معرفتنا بطقس الخليج الحقيقي. وفي صالة المطار وجدنا صفاً من الزملاء ولا أدري هل كانوا من جماعتنا عن نفس الرحلة أم من الرحلة التي سبقتنا وقد اصطفوا بانتظار مسؤول ما؛ وأرجِّح أن منهم من كان على رحلة طيران الخليج باليوم السابق لأنني اكتشفت أن رحلة الخليج توقفت بالبحرين وحضرت إلى مسقط منتصف الليل، وكان على ركابها المعارين للسلطنة الانتظار لليوم التالي.   لهذا كنا في الهم سواء.

لقد كان هذا التصرف غريباً فلماذا الوقوف بالصف ولماذا الانتظار كل هذا الوقت، فلم نعتد على هذا بعد. لقد كان هذا الاستغراب ليس بمحله، ولكنها ساعة ضيق طبعاً من السفر فالسفر قطعة من العذاب. لم يكن الأمر بهذه السهولة أن نصل ونختم جواز السفر ونخرج؛ ولم نفكر بمن سيستقبلنا. لقد كان هذا إجراء روتينياً لأننا يجب أن ندخل بفيزا جماعية على كفالة الوزارة، ولهذا يجب حضور الموظف المسؤول للتوقيع على (العُهدة)؛ نعم كنا كما (العُهدة) أيام زمان ولا أدري إن كان الأمر ما يزال على هذا المنوال أم تغير بالنسبة للمعارين إلى وزارة التربية والتعليم. ما أعرفه هو أنه بما يخص موظفي وزارة القوى العاملة والتعليم العالي فقد تغير، حيث يحضر المدرس بفيزا منفصلة ويختم جواز سفره ويخرج دون انتظار.

حضر الموظف وتمت الإجراءات وخرجنا صفاً كلٌ إلى الحافلة التي ستقله إلى مكان عمله. ولقد كان هناك عدد لا بأس به متوجها إلى محافظة ظفار (وكانت تُسمى المنطقة الجنوبية آنذاك)، وطلب الموظف الصعود إلى الحافلة للتوجه إلى صلالة، ولم نكن نعرف المسافة بينها وبين مسقط.  هنا لا أدّعي الذكاء والفطنة بل كان تدبير رب العالمين فقط، ولكني أذكر أنني تقدمت من الموظف وأخبرته أننا معارون إلى "ديوان عام الوزارة" كما رأيت بالكشف، وهنا قال الموظف " أنتم وقفوا على جنب" وغادر الإخوة معلمو التعليم العام على متن حافلة مستأجرة إلى صلالة وكانت رحلتهم أشبه ما تكون برحلة أبي العلاء البشري بالمسلسل الشهير، مليئة بالأحاديث التي لا مجال لسردها هنا لأنها خارج موضوعي الخاص.

نظر زميلي وصديقي إلى الحافلة وهي تسير مبتعدة ونحن بالمطار فقال لي " تشيف ساويت بينا هيتش، فنحن نعرف أنفسنا بصلالة ليش ما طلعنا بالباص معاهم".  فقلت له لا أدري هذا ما حصل. ركبنا حافلة مع المسؤول، وتوجه بنا إلى سكن للمعهد الديني بالوطيّة بمسقط حيث كان يوم الخميس. وأُعطينا سكناً مؤقتاً حتى نقابل المسئولين بالوزارة يوم السبت. فنمنا جميعاً وبعد أن استفقنا خرجنا لنبحث لنا عن شيء نأكله وسرنا بالشارع المجاور ورأينا كم هي نظيفة مسقط. وما أدهشني كذلك التزام السائقين والركاب بالقواعد المرورية، فعند محاولتي عبور الشارع قدمت سيارة مسرعة فرجعت خوفاً، فما كان من السائقة إلا أن أعطت إشارة التوقف الرباعية لأعبر الشارع عند الخطوط البيضاء. كذلك لاحظت التزامهم بوضع حزام الأمان لأن عدم الالتزام سينتج عنه مخالفة لا واسطة فيها.

كان الأستاذ جاسر عنانزه زميلي في كلية حوارة يعلم بحضورنا عندما كنا نلتقي بالأردن، فحضر لعندنا مع زميل أردني آخر عرفته في عُمان وهو الأستاذ محمود البوريني وكان يعمل بكلية الحصن كأمين مكتبة. اصطحبونا بسيارتهم في جولة بمسقط، ثم دعونا إلى الغداء بمنزلهم بالكلية المتوسطة بالقرم.   و كانوا "معزبين لنا " كرماء حقا فجزاهم الله كل خير.


و بالإضافة إلى ملاحظاتي السابقة عن مسقط اكتشفت اكتشافاً آخر وهو اللغة. نعم سلطنة عمان دولة عربية وتتحدث العربية لكن اللهجة عندهم لم تكن مفهومة لدينا، فعندما كنا نسمع أثنين يتحدثون لا نفهم ما يقولون، ولقد زال هذا اللبس لاحقا طبعا بعد مدة من الزمن وخاصة في صلالة. كذلك لاحظت انه يجب أن تتحدث الإنجليزية لكثرة وجود العمالة الوافدة من إخواننا الهنود. ولكن الانجليزية هذه تختلف عن تلك التي تعلمناها بالمدارس فهؤلاء العمال لا يفهمون الانجليزية الصحيحة، ولكن يجب تطعيمها بمفردات مكسرة حتى يفهما الهندي. وهنا أذكر قصة حدثت معي بعد وصولي صلالة عندما توجهت لمستشفى السلطان قابوس لاستخراج بطاقة العلاج والتي يحررها موظف هندي. وللتوضيح يجب التذكير  أن معلومات الهندي عن خلق الله في صلالة كانت أنهم ثلاثة أصناف لا رابع لهم: العُماني الذي يلبس الدشداشة العُمانية، والهندي الذي يعرفه من سحنته، والعربي وكلهم (أي العرب) عنده نفر مِسري (أي مصري)، فأخذ المعلومات مني من اسم وخلافه إلى أن وصل إلى خانة الجنسية على البطاقة فكتبها دون تردد ودون استشارتي: أيجبتشن (Egyptian)،  فقلت له: نو أنا جوردانين فنظر إليّ مستغرباً، فوضحت له الأمر (I am from Jordan) فمسح كلمة اجيبتشن و كتب جورداني، فقلت له اكتب جودينيان، فلم يعجبه الأمر وقال موضحاً ومُعلماً (جوردان جورداني سيم سيم عُمان عُماني، أنت أنجلش ما في معلوم؟!)، قلت له و الله أنت أعرف (As you like)، وبقيت كلمة جورداني على البطاقة إلى أن قيّض الله لها شخصاً آخر "انجلش حقيقي في معلوم".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق