الاثنين، 29 أغسطس 2016

الفصل الرابع - المرحلة الثانية من الإقامة في صلالة

الفصل الرابع

المرحلة الثانية من الإقامة في صلالة

في تلك الفترة شهد التدريب المهني  التابع لما كان يُعرف بمؤسسة التدريب المهني من نظام المعاهد التي تقبل ما بعد الإعدادية إلى نظام الكليات التي تقبل طلاب المرحلة الثانوية لتخريج طلابٍ مهنيين.  وكان اسمها بتلك المرحلة الكليات الفنية الصناعية. بدأت كمرحلة انتقالية ببرنامج قديم إلى نظام يعتمد اللغة الانجليزية بالتدريس.   وحضر لهذه المرحلة مجموعة من الأردنيين لإدارة الكلية وهم الدكتور خلف هاجم التل عميداً لكلية صلالة، والمرحوم الدكتور يوسف الطروانة عميداً لكلية ابراء الذي انتقل الى رحمته تعالي بحادث سير مؤسف بمسقط.  أما كلية الرستاق فقد كُلف الدكتور صادق الحموز بإدارتها، في حين كُلِّف الدكتور (معالي الدكتور في الأردن لاحقا) عادل الطويسي بإدارة كلية نزوى، في حين بقيت كلية مسقط تحت إدارة الدكتور عبد الحكيم الإسماعيلي عماني الجنسية.  وقد حضر معهم طاقم كبير من المدرسين الأردنيين وأذكر أنه حضر مع الدكتور خلف هاجم إلى صلالة الدكتور عارف حمو  مدرساً ثم رئيساً لقسم الدراسات التجارية ثم قائماً بأعمال عميد الكلية في الفترة الأخيرة والأستاذ نصر بطاينه لقسم تكنولوجيا المعلومات والأستاذ ماجد الحاج في قسم اللغة الانجليزية. وكما جرت العادة تم التعرف على الأساتذة الكرام وقمنا (كل الأردنيين بالكلية المتوسطة)بواجبهم خير قيام ولا نمن عليهم بذلك فهم أهل كرم كذلك. 


بقينا على علاقة طيبة نحن مدرسي الكلية المتوسطه للمعلمين وكنا ندعوهم في كل مناسبة وتزداد اتصالاً بهم يوماً بعد يوم.  وكلما ازدادت العلاقة توطدا بهم ازداد حرجي بمفاتحة الدكتور خلف التل برغبتي بالعمل لديهم لأن عام 1994 / 1995 كان السنة الأخيرة لي بكلية المعلمين، وقد أحس هو بذلك فطلب مني إن كنت أرغب بالعمل ان أزوده بأوراقي ففعلت باليوم التالي وأرسلها الى مسقط لهيئة التدريب المهني.  وفي نفس العام بدأت الكليات بتطبيق نظام المؤهلات الوطنية (GNVQ) و هذا جعل الطلب على مدرسي اللغة الإنجليزية كبيراً منذ ذلك الوقت. وهذا ما رفع درجة الأمل بالموافقة على طلب التدريس، وتمت الموافقة بعد مقابلةٍ لي بمسقط.

و في شهر ابريل 1995 قال الدكتور خلف لي إنهم يريدون أن يقابلوني بمسقط، فذهبت للكلية بمسقط حيث كانت تتم المقابلات هناك. خضعنا لمقابلة بدأت رسمية ثم تحولت بعد عشر دقائق إلى غير رسيمة؛ خلعنا خلالها الجاكيتات وجلسنا مقابل بعض وأصبح الحديث ودياً مع  جون ميكفارلن مدير برنامح ال (GNVQ)، الذي قال لي( Enjoy your flight to Salalah). سارت الأمور كالمركب التي تدفعها ريح طيب بسهولة و يُسر. وأصبحتُ حديث مدرسي الكليات أن طلال هو الباقي الوحيد بصلالة والجميع ذاهبون.
 
بدأنا (العائلة) بالاستعداد للنقل وأصبحنا نفكر بأي الفلل سنسكن أو ربما الشقة أفضل، إلى أن بدأت الريح بالتغير، و اكفهر وجه البحر لربان المركب، وأصبحتُ أسمع عبارات الاعتذار لأني طلبي للنقل لم تجزه قوانين الخدمة المدنية التي تحظر النقل بين المؤسسات بعد انتهاء الخدمة من أحدهما ؛ فمن ينهي عمله عليه أن يُغادر السلطنة ثم يعود بعد سنتين. و عندما لم أستطع فعل شيء غادرت بالتاريخ الذي ذكرته سابقا الى الأردن.

عدت للأردن وبدأت عملي مدرساً للغة الانجليزية في كلية الحصن للمهن الهندسية بشهر أيلول (سبتمبر ) 1995 حيث لم يكن بالإمكان الرجوع إلى كلية مجتمع حوارة لأنها انتقلت لوزراة الصحة ككلية تمريض، ولهاذا تم توزيع تركتها معلمين وطلاّباً وخلافه على باقي الكليات. 

الخيرة فيما اختاره الله

لا يدري الإنسان أن الله دائماً يختار له الأفضل، ولكن الأنسان خلق عجولا. كثيراً ما كنا نصلي صلاة الاستخارة بخصوص الإنتقال للكلية الفنية وفي ذهننا طبعاً أن الله يحقق لنا هذه الأمنية، ولكن عندما شاءت إرادته تعالى أن تعرقل المعاملة بديوان الخدمة المدنية داخَلَنا شعور بعدم الرضى عن هذه النتيجة وتبخر من خاطرنا أن أحد اشكال استجابة الدعوى هو أن يبدلنا الله خيراً منها أو يؤخرها حتى تتحقق مشيئته بعد فترة. القصة هي كالتالي:

بدايةً التحقت بوزارة التعليم العالي الأردن اعتباراً من 1/ 9 / 1995 فتم تعيني بكلية الحصن الجامعية لأن كلية حوارة كانت قد الغيت وتم توزيع كادرها على باقي الكليات. واستمر تعيني فيها الى أن طرق بابنا صهري أبو علاء رحمه الله يخبرني أن عُمان قد أرسلت تذاكري على طيران الخليج في شهر يناير 1996. وهذا يعني طبعاً أن أنني بقيت بالأردن سنة ونصف بالتمام و الكمال. وقد تجلت حكمة الله لي بالذهاب إلى الأردن بعام 2004 عندما كان عليِّ أن أختار بين الاستمرار بالعمل بالكلية الفنية بعمان أو أعود إلى الأردن، فاخترت الاستمرار وعندها كان علي التقدم بطلب الإحالة على الاستيداع، واتضح لي أن خدمة (السنة ونصف) هذه كانت العامل الحاسم بالوصول بسنوات خدمتي إلى السن الذي يؤهلني للحصول على الاستيداع ثم التقاعد، فلا تتصوروا كم كانت فرحتي بهذا و خجلي لأنني لم أفطن إلى استجابة الله تعالى لصلاة استخارتي عام 1995،وحزنت على عدم تمكني من الالتحاق بالكلية بعام 1995، وكانت هذه الخِيرةَ الأولى لصلاة الاستخارة.  وأصبحت أروي هذه القصة لكل من يتذمر من موقف مشابه.

أما الخيرة الثانية فكانت أكاديمية؛ إذ طلبت جامعة قطر محاضرين للتدريس هناك وتقدمت بطلب لهم، فطُلِبتُ للمقابلة بالسفارة القطرية، وهذا أعطاني شعور أكاديمي بأنني أيضا مطلوب بأماكن أخرى، وليس فقط عُمان.  وأذكر أن السيدة التي قابلتني قالت لي ستنبسط عندنا بقطر، وهذا أعطاني أيضاً دفعة بالثقة بالنفس أنني مطلوب أيضاً خارج عُمان. طبعاً حدثت ترتيبات عندهم بالجامعة جعلتهم يختارون أثنين فقط من جامعة اليرموك ليتمكن واحد منهم فقط من الذهاب وتهدر الفرصة على الباقيين.

الخيرة الثالثة وهي إنسانية بحتة أتحفظ عن الخوض بتفاصيلها كثيراً، إلا أنها وباختصار دلت عن تعامل البشر يختلف باختلاف الأزمنه والأمكنة والظروف، واللي بتحسبه موسى بيطلع فرعون.  مررنا كعائلة بمطبات كثيرة وتفاجأنا من بعضها وغضبنا من البعض الآخر وكظمنا غيضنا في حالات أخرى. كان يداخلني شبه يقين بأنني عائد الى عمان وأن المسألة مسألة وقت؛ أي انني كنت اعتبر نفسي بإجازة طويلة.

هناك أيضا خِيرة رابعة لفترة السنة ونصف في الأردن بين الكليتين هي أنني ترقيت إلى الى الدرجة الثانية، مما رفع من راتبي التقاعدي لاحقا.  فهل هناك من شك بعد كل هذا أن الله دائما يختار لنا الأفضل!!! الحمد لله على نعمه ظاهرها وباطنها.

تقدمت بطلب لإجازة بدون راتب من وزارة التعليم العالي الأردنية وعدت إلى سلطنة عمان بتاريخ 25 / 1 / 1997.  وهكذا ما زال يسير بي الزمن في صلالة منذ ذلك الزمن إلى يومنا هذا، والحياة كما تعلمون لا تصفو مشاربها دائما.

لهذا سيكون حديثي عن عُمان و صلالة  و المجتمع الظفاري خلال هذه الفترة الطويلة حديث المشاهد لكل ما يجري حوله، أسجلها كما عشتها شخصياً وقد أكون مصيباً أو مخطئاً فالعصمة لله وحده.   


الثلاثاء، 23 أغسطس 2016

تتمة الفصل الثالث

شعور بالندم

من المساوئ القاتلة عندما تكونَ ضمن مجموعة معينه هو أنك لا تستطيع أن تستقل بتفكرك. فقبل حضور الأسرة أصبح الحديث بين الأصدقاء يتردد من الذي سيستقبل الأسرة عند الحضور، فقلتُ سأذهب أنا لاستقبالهم فرمقني الحضور بنظرة استغراب، ليقول بعدها أخي الأكبر الدكتور أحمد سندبر أمر استقبال أسرتك (بنخلي فلان يستقبلهم) فرفضت لأن هذا الشخص لا أعرفه مع احترامي له، وأصررت على الذهاب، لكن هذا يقول مصروف زايد، وآخر يقول  غامزاً بعينيه يا عمي هذول درجة خاصة شو هامهم ( ولموضوع الدرجة الخاصة حظ من الحديث لاحقاً) ونتيجة لهذا اقتنعت بأنني لا أريد أن أُصنف من فئة المبذرين ولا زمرة المتكبرين، فاتصلت بزميلي الأستاذ جاسر عنانزة لاستقبال الأسرة الذي رحب مشكوراً، فكان له فضل آخر إضافة للفضل الأول عندما استقبلنا بمسقط. 

تصادف قدوم الأسرة إلى مسقط مع احتفالات السلطنة بالعيد الوطني العشرين، فانبهروا لكثرة مظاهر الاحتفال من لوحات تعبيرية وإضاءة تغطي العمارات الكبيرة والميادين العامة فضاعف هذا من سرورهم، فأشاع البهجة في نفوسهم واعتبروه فال خير بحياة جديدة مختلفة تبشر بحياة أفضل. وشعرت بهذا من نبرة صوتهم عندما كلمتهم لحظة وصولهم إلى بيت الأستاذ جاسر عنانزة، وهنا لا بد من شكر زوجة الأستاذ جاسر لقيامها بأفضل واجبات الضيافة تجاه الأسرة كما أخبرتني أم محمد لاحقاً. 

المفاجأة كانت أن تذاكرهم كانت لمسقط فقط وعلى الكلية توفير تذاكرهم لصلالة، وهنا خضعنا لنوع آخر من منغصات الحياة وهو أن الكلية قالت نحجز بالسفر العادي ولكن تذاكر القدوم تحجزها الوزارة، وطبعا لا بد من استشارة الوزارة وهنا قلت لمساعد المدير عائلتي بمسقط ولن أسمح بأن تبقى بمسقط إلى أن تسألوا الوزارة وسأشتري لهم التذاكر من جيبي الخاص ثم نرى لاحقا مسؤولية من. بعدها بساعة جاءني من يخبرني أن التذاكر اشتريت و أن الأولاد سيكونون بصلالة اليوم التالي.


اكتمال العِقد

وصلت العائلة إلى صلالة بشهر نوفمبر 1990 وكنت باستقبالها بسيارة الأستاذ عاطف جرادات (ابو المنذر) المازدا ال 323 الصالون الذهبية. هكذا كان العُرف أن يذهب شخص مرافق معنا لاستقبال الأسرة حتى لو امتلكنا السيارة، فقد كان تفسير الشيوخ الكبار من الأردنيين بصلالة أن الزوج قد يصاب بحالة من عدم التركيز عندما يرى زوجته وأولاده من فرط فرحه بوصولهم. وبعد دقائق كانت الأسرة بصلالة بشقة صغيرة مكونة من غرفتي نوم و مطبخ وغرفة ضيوف وحمام واحد. لا أذكر ماذا حدث بالضبط ولكننا نظرنا إلى بعضنا نظرات مغزاها أن ( الحمد لله، أخيراً اكتمل العقد وهدأ البال)، ثم ناموا جميعاً نوماً عميقاً حرموا منه مدة قاربت الأربعين يوماً. صحونا بعدها لتبدأ حياتنا كجزء من الجالية الأردنية المتواجدة بصلالة بتلك الفترة الزمنية والتي ستكون موضوع حديثا بالفصل الأخير.  

الراتب

شكل موضوع ترتيب أمور البيت والأسرة المالية أحد أهم القضايا المهمة، إذ تختلف حياة الأعزب عن صاحب الأسرة. علمت عندما حضرتُ إلى الكلية أن الرواتب تتأخر عادة للموظفين الجدد حتى يستكملوا الإجراءات الحكومية، ولكن وحسب القانون يُعطى الموظف الجديد سُلفة مالية بقيمة 150 ريال عماني ( الريال العماني يساوي 1.85 دينار أردني). لكن هذه السلفة لا تكفي تجهيز الموظف للأساسيات من أموره الحياتية، لذلك كان لا بد من الإستدانة بمبلغ مقارب عندما حضرت الأسرة.


مكرمة صاحب الجلالة  

من الأمور التي ما زالت زوجتي تذكرني بها أن حضورهم كان فأل خير علينا كما يقال عندنا بالأردن، إذا بعد حضورهم بأيام قليلة وقبل الاحتفال الرسمي الرئيس بالعيد الوطني زفت لنا الأخبار نبأ مكرمة صاحب الجلالة على موظفي الخدمة المدنية صنفها المرسوم بعدة مستويات و لكنه خص الموظفين الوافدين براتب شهر يُصرف فوراً، لهذا كما قال الشاعر :

ضاقت فلما اشتدت حلقاتها                            فرجت وكنت أظنها لا تفرج

شملتنا مكرمة صاحب الجلالة رغم وصولنا بتلك السنة لأننا وصلنا بأول السنة وقبل البدء بالاحتفالات وبعد الخبر بأيام قليلة جداً توجهنا لمكتب المحاسب لنجد مغلفاً بقيمة (605 ريالات عماني) لتنفرج كل مشاكلنا المالية ومنها موضوع السيارة حيث أن السيارة المازدا الحمرا 626 موديل 1982 التي تعود ملكيتها لزميلي انتقلت ملكيتها لي بعد دفع مبلغ 550 ريالا ثمناً لها، وهنا أصبحنا من ملاك السيارات.    




وصول الراتب

بما أن الشيء بالشيء يُذكر أجد من المناسب أن أعرج على كيفية وصول الراتب. نعم، أخيراً وصل الراتب وهو راتب ثلاثة أشهر سوياً. وعندما أُستدعينا لاستلام رواتبنا من مكتب المحاسب تسابقنا نحن الجدد للوصول هنا وعند استلام المغلفات حاولنا قدر الإمكان أن نخفي فرحتنا عن بعضنا باعتبار أن ( المصاري) ليست مهمة كثيراً، ولكن قطعاً فعل الجميع كما فعلت عندما وصلت البيت. 

دخلتُ البيت فرحاً ضاحكاً وجمعت الأسرة الصغيرة ونثرت المبلغ فوق رؤوسهم وقلت لهم هذا ما يمكن أن نجمعه بالأردن طيلة عمرنا، فرح الجميع وسمعت منى تقول الحمد لله، وبالمناسبة هي كثيرة الحمد لله مهما كانت المناسبة.

اقتضى منا الوضع الجديد أن نستأذن من الدوام لنفتح حسابا ببنك عمان العربي لسهولة التحويل منه للأردن، وأذكر أن نائب المدير كان اسمه حسين وهو أردني الجنسية. ثم أصبحنا نودع شهرياً لأن الرواتب كانت تصرف عند محاسب الكلية، وبقينا على هذا الحال إلى أن أصبحت تُحول تلقائياً إلى البنك في عام 1993 على ما أظن، فأصبحت زيارة البنك ضرورية كل شهر لسحب مصروف الشهر بشيك لأن خدمة الصراف الآلي والبطاقات لم تكن معروفة.

وهكذا سار بنا مركب الاغتراب يتهادى من سنة الى أخرى بين مد وجزر في صلالة إلى أن أقتضت طبيعة الإعارة أن تنتهي في سنة 1995 حيث كانت مدة الإعارة خمس سنوات.  صادف ذلك التاريخ انتقال الكليات بالسلطنة إلى نظام كليات التربية فاقتضى ذلك تغيير معظم طاقم المدرسين بالكليات، ولهذا رافقني في رحلة الرجوع إلى الأردن من كان يعتقد أنه باق في صلالة الى يوم الدين من مختلف الجنسيات بلغ عددهم تسع عشر محاضراً.  فغادرتُ في  15 يوليو 1995.


الاثنين، 22 أغسطس 2016

الفصل الثالث


الفصل الثالث

الوصول إلى صلالة

بهرتني أضواء المطار الساطعة خارج المطار وداخل صالة القادمين فأصبت بما يعرف عندنا بلهجتنا الأردنية (قومرت) أي أنني لم أستطع الرؤيا بعدها رغم أنني أرى كل شيء ولكن دون إدراك كما يحدث عن توسع البؤبؤ للعين.

خرجنا من صالة المغادرين فلا أذكر أنني وجدت أحداً أردنياً باستقبالنا، ربما لعدم معرفتهم بموعد وصولنا كما أخبرونا لاحقاً، طبعا تبين أن مقولة ما كنا نعرف حُجة عامة نلجأ إليها عند تقصيرنا أحياناً. وما أن خرجنا من الصالة حتى تقدم منا شخص عُماني تظهر على وجهه طيبة القلب واسمه كما عرفت لاحقاً " أحمد عبد الرب" ليسأل هل أنتم الدكاترة الأردنيين فأجابه زميلي الدكتور أحمد العودات بنعم، وبالتالي تجنبت التوضيح أنني لستُ دكتوراً، وقد عرفت لاحقاً أنهم يطلقون كلمة دكتور على كل من يدرّس بالكليات. ركبنا السيارة مع الأخ أحمد وأخذنا إلى شقتين بعمارة بوسط صلالة تعود ملكيتها للشيخ عبد الخالق الرواس فوق ما كان يُعرف زمان بمحلات ديراج التي تحولت إلى محلات السلمان. وكانت هاتان الشقتان تحويان بقايا أثاث ممن سبقنا ووُعدنا أنهم سيغيرون الأثاث لنا لاحقا، و قد كان،  ولكن بعد ردح من الزمن. 

تلك الليلة التقينا بالأستاذ جميل مناصره وهو يلعب الشدّة ببيت شخص أردني آخر من المعلمين وهو أبو فاعور رحمه الله، و لا أدري كيف وصلنا إليه حيث أنني كنت تحت تأثير السفر، وحدثنا عن الكلية والقسم .... الخ.  وسأقفز  عن الحياة و الدخول للكلية لأنني أفردت له  فصلاً خاصاً، لكني سأنتقل الآن الى وصول الأسرة الذي كان بعد أربعين يوماً من قدومي للسلطنة. 
 

حضور الأسرة

لقد كنتُ فرحاً فرحاً شديداً بالعيش بصلالة، ولم يكن ينقص فرحتي إلا شيء واحد ألا وهو عدم التئام شمل الأسرة معي. لقد تركتهم في أربد يتنقلون بين الأقارب حيث أنني ارتكبت خطأ فادحاً وهو الخروج من الشقة وبيع الأثاث، رغم معارضة زوجتي لذلك ( يا أخي هالستات لهم حِكَم مرات) لهذا لم تكن أمورهم على ما يرام هناك، خاصة بوجود طفلين صغار ينتقلون من بيت كانوا هم أهلُه إلى بيت أصبحوا ضيوفاً فيه، والضيف كما تعلمون يكون في أحسن حالاته عندما يكون خفيفاً، ويكون الضيف في قمة عطائه عندما يغادر بسرعة. لست هنا بصدد الحديث عن طيب مقامهم هناك، فليس كل ما حدث يسر البال وليس كل ما يُعلم يقال.

عندما علمتُ بموضوع إعارتي لسلطنة عمان لم أستفسر عن الراتب ولكني استفسرت عن الأوراق المطلوبة لحضور الأسرة مثل صور شخصية وصور جواز السفر وعقد الزواج وشهادات الميلاد، كنت حريصاً على معرفة كل شيء، فلم أرد أن أتعرض لأي موقف يؤخرهم عني. وكذلك كان أول سؤال سألته للفاضل الدكتور نائب مدير دائرة إعداد و توجيه المعلمين بالوزارة والذي طلب الأوراق للبدء بالمعاملة من مسقط، ولكنه استدرك وقال" عندكم بصلالة مكتب للهجرة والجوازات وستكون المعاملة من هناك أسهل و أسرع.

 لذلك وبعد أن أنهيت معاملة شؤون الموظفين بالكلية استفسرت وطلبت إحضار الأسرة وقدمت الأوراق، ولكن الموظف قال لا يمكن إحضار الأسرة الآن حتى يأتينا ما يثبت أنك على الدرجة الخاصة، وهذا يعني انتظار مدة لا تقل عن شهرين. هنا كان لا بد من الدخول على سعادة المدير وقلت له " البركة بسيادتك" و هذا كان كافياً لسيادته أن يذهب لموظف شؤون الموظفين ويقول له أن يبدأ بمعاملة جلب الأسرة، وعندما احتج الموظف بعدم معرفته بالدرجة قال له المدير أنه اتصل بالوزارة و أخبروه بدرجتي. فاطمأن قلب الموظف وسار المعاملة. طبعا وللتوضيح فإن قائمة أسماء المعلمين كانت لديهم وكل حسب درجته، ولكن كان لا بد من استثمار الكرسي، فهي فرصة لا تتكرر دائماً وتحدث مرة واحدة فقط وهي بداية التعيين، وهذا ما أطمئن به قلوب المعينين حديثاً عندما يتذمرون بمثل هذا الموقف. 

لقد كان طيف الأسرة معي في كل مكان أزوره أو يأخذنا إليه الأستاذ جميل بسيارته المازدا الحمراء التي أصبحت سيارتنا لاحقاً لأنني أعرف أنني سآخذ إليه الأسرة بعد حضورهم، وكنت أعرف أن هذا المكان سيفرحهم وذاك سيضحكهم وآخر سيستغربون منه. بمعنى آخر كنت أعد نفسي لأن أكون دليلاً سياحياً ناجحاً للأسرة عندما تصل. أذكر أنني كتبت في أول رسالة خطية للمدام " إن صلالة مدينة جميلة جداً، ولكن كان يمكن أن تكون أجمل بوجودك إلى جانبي"، وفي الحقيقة كنت أتخيلها في كل مكان أدخله إلى جانبي. كنت أتخيل محمد وسمو يلعبان في كل حديقة أزورها.  

كنت وزميلي الدكتور أحمد العودات الذي حضر معي معاراً للكلية نسكن شقتين متجاورتين، وكان يحرص على أن نبقى سويا معظم الوقت ويصر أحياناً على المبيت عنده بنفس الشقة؛ لقد كان يمارس (الله يذكره بالخير) دور الأخ الأكبر لي لأنه كان يكبرني بأعوام كثيرة، ويستغرب عندما كنت أشذ عن القاعدة في بعض المرات لأكون مع نفسي أو أبدي عدم الرغبة بالجلوس بمجلس كما قال الشاعر عنه (بمجلس فيه نفوس ثقيلة)، إلا أنه مع ذلك كان لا يمانع إذا توفر له البديل من الرفقة. لهذا كنت أستغل بعض اللحظات لأكون على بلكونة الشقة لأنظر صلالة بالليل لأسطر لمنى الرسالة القادمة لأطمئنها عن البلد التي ستكون فيها. ومن يعرف شارع النهضة بالمنطقة المقابلة للعمارة التي نسكنها يعرف أنها مليئة بمحلات الخياطة، وهذا أول شيء لفت نظري عن صلالة، وكنت أعرف أن هذا سيفرحها لكثرة شغفها بتفصيل الملابس. من المفارقات المضحكة أنني اكتشفت أن هذه المحلات التي كنت أحدثها عنها إنما هي لخياطة الملابس الرجالية فقط وبشكل خاص متخصصة بالدشداشة العمانية، أما الخياطة النسائية فكانت بمنطقة الحافة وأشهرها خياطة الصداقة.

كنت دائما ألاحظ قلق منى وشغفها للحاق بي فأزداد متابعة لمعاملة إحضار الأسرة كما يسمونها هنا، وفي كل مرة أسأل يُقال لي المعاملة (بتحتاج ) وقت، وليس بالسرعة التي تتمناها، وهنا كنت ألوم نفسي على عدم إعطاء المعاملة لدائرة إعداد وتوجيه المعلمين بمسقط. ولكن حصلت المفاجأة التي تلخصت كالتالي:

ذات جمعة اتصل الدكتور محمد علي الشبول (رحمه الله) وكان مرشحاً للإعارة إلى كلية نزوي بالدكتور احمد العودات زميله ليسأله (كالعادة) إن كان بحاجة لشيء من الأردن، فقال له شكراً و هذا الأستاذ طلال بسلم عليك، فطلب الدكتور أن يكلمني فسلمتُ عليه ورحبت به بعمان وسألته سؤالاً عابراً من معه على الطائرة من المدرسين، فقال الدكتور أحمد صقر عميد كلية نزوى والدكتورة عائشة حجازي عميدة كلية عبري للبنات وهناك معلمة أخرى اسمها منى ولا يعرف أين تُدرِّس فقلت له هل تعرف أسمها كاملاً فقال نعم منى غانم فأكملتُ له الاسم فرحاً دون أن يطلب وقلت له هذه زوجتي وهي ليست مُدرِسة، وأرجوك أخبارها على العنوان التالي وأعطيته العنوان. كذلك قمت بالاتصال بزوجتي و أخبرتها بالذهاب للسفارةالعمانية، فحصل المراد واستلمت التذاكر وحضرت إلى سلطنة عمان بعد رحلة عناء من أربد إلى عمان العاصمة.

بالكيماوي يا صدام

لقد كان رحلة الأسرة على طيران الخليج ولهذا وجب التوقف بالبحرين. وعندما توجهوا إلى مطار البحرين فوجئ محمد (2.5 سنة) بعدد من أفراد الجيش وربما كانوا من قوات الشرطة البحرينية، فما كان من محمد إلا أن صار يصيح وينط ويهتف ( بالكيماوي يا صدام بالكيماوي يا صدام) فضحك الجيش منه كثيراً وقالوا هذا أكيد من الأردن، مما خفف عن والدته الحرج.  طبعا تفسير هذا هو أن الأردن كانت تهتف لصدام ضد القوات الأمريكية التي كانت تستعد لطرد صدام من الكويت بعد غزوه لها، وكانت الشعوب تُصدِّق أن عند صدام الكيماوي اللازم لهذا، فهتفت له ليطردهم ويبيدهم بالكيماوي ولكن صدام على ما يبدو آثر أن يعاملهم بالحسنى.


الثلاثاء، 16 أغسطس 2016

لقاء الوزارة و استلام الوظيفة - تتمة الفصل الثاني

لقاء الوزارة و استلام الوظيفة

صباح السبت حضرت الحافلة لتقلنا إلى الوزارة، وهناك وجدنا نائب مدير دائرة إعداد و توجيه المعلمين بانتظارنا ووجدنا من الاحترام والتقدير عند هذا الرجل ما أذهب عنا كأداء السفر ونصبه ووعثائه. لقد كان غاية باللطافة ودماثة الخلق، فرحب بنا أجمل ترحيب فهنأنا بسلامة الوصول، وكانت جلسة تعارف قصيرة، لأنه أخبرنا بمكان عملنا بتلك الساعة فقد كان الجميع لا يعلم درجته ومكان عمله باستثناء الفقير إلى الله تعالى بتلك اللحظة التي عدت لأسلّم صورة من جواز سفري بعمان كما أسلفت سابقاً. لم نوقع عقوداً مع الوزارة ولم يطلبوا صوراً من المؤهلات بذلك اللقاء لأننا كنا معارين من وزارة التعليم العالي الأردنية، ولهذا كانت معاملتنا تختلف عن معاملة من جاء بعقد.

لقد كانت الدائرة جاهزة لاستقبالنا كما ظهر لنا فالكل يعرف ما عليه فعله. لهذا بدأ الدكتور نائب المدير بتوزيع الإخوة على بعض الموظفين، وبعدها يذهب الأخ مع موظف ما ولا يعود، ولهذا لم تتح لنا فرصة وداع الإخوة، ولم نرهم إلا بالمطار عند العودة للأردن بآخر العام. لقد كان الموظفون الذين يذهب معهم الإخوة هم السائقين الذي أقلوهم إلى كلياتهم بمختلف مناطق السلطنة القريبة من مسقط.

وعندما جاء دورنا قال الدكتور أنتما بصلالة و أشار الدكتور إلى أحد الموظفين " احجزوا لهم التذاكر لصلالة بسرعة قبل إغلاق المكتب واتصلوا بالكلية ليلاقيهم مندوب الكلية"، فارتاح زميلي وصديقي لذلك وأيقن أن مقولتي عن ديوان عام الوزارة آتت أكلها، فلقد عرفنا من الأستاذ جاسر عنانزه أن المسافة لصلالة ليست بالبسيطة. وقد تم الحجز و أرسلنا الموظف إلى السكن لنحضر حقائبنا ومن ثم إلى المطار لتكون رحلتنا إلى صلالة بعد المغرب. فجلسنا ننتظر.

لا أدري كيف مر الوقت ولكننا انتبهنا على صوت النداء الأخير للصعود فصعدنا، وهنا حصل معي أول مقلب على الطيران وهو إصرار احد الركاب على الجلوس الى جانب أسرته وهذا حقه طبعا الذي تنادي به الشرائع والعادات، ولكن المضيفة رفضت و أصرت على أن يجلس بمكانه حسب الرقم وطال الجدل الناتج عن سوء تخطيط موظف الحجز الذي بعثر العائلة كلٌ في مقعد. وأخيراً صعد موظف تبدو عليه المسؤولية من كشرته وكالعادة يريد كل شخص أن يفهم القصة من أولها، فقمت من مكاني وقلت بالانجليزية أنا مستعد لتغيير مقعدي إذا كان ذلك سيساهم بحل هذه المشكلة وهنا بادر آخر بنفس الفكرة وحُلت مشكلة الرجل وجلس إلى جانب أسرته. أذكر أن هذا الموظف المسؤول قد تقدم الي بعدها بالشكر بعبارة (sorry for the inconvenience).

حلقت بنا الطائرة إلى صلالة وبعد ساعة ونصف تقريباً جاء صوت المضيفة لتعلن أننا وصلنا صلالة، ولدى خروجنا من باب الطائرة كان الجو معتدلاً وليس كجو مسقط فأيقنت بأن حياتنا هنا ستكون مختلفة، وهكذا كانت والحمد لله.





الأحد، 14 أغسطس 2016

الطريق إلى صلالة - الفصل الثاني

الفصل الثاني

الوصول لسلطنة عُمان

في الساعة الواحدة من صباح يوم 6 / 9 / 1990 طارت بنا طائرة الملكية الأردنية إلى مسقط مفتتحة حياة جديدة لنا. نظرتُ إلى صديقي وزميلي فوجدته فد غطّ في نوم عميق بمجرد أن غادرت الطائرة أرض المطار وقد اضطررت إلى إيقاظه عندما أحضروا لنا طعام العشاء. لم أستطع النوم لأكثر من سبب فقد كانت هذه أول عهدي بالطيران لذلك كنت متوتراً جداً، وهذه حالات يندر فيها النوم خاصة إذا كان الطيران فوق منطقة ملتهبة حيث أشار لنا (مساعد الكابتن) أثناء جولة بين الركاب أننا نطير فوق منطقة التحالف حيث البوارج والطائرات الحربية؛ ولقد خف هذا التوتر شيئا فشيئاً ولم يلغه طبعاً بمجرد إحضار العشاء وربما كان سبب تقديم الأكل على الطائرات هو لتخفيف التوتر عند الركاب. وثاني هذه الأسباب هو القلق باللقاء الأول مع المسؤولين بالوزارة فهذه هي المرة الأولى لنا، وقطعاً شكل القلق على العائلة بالأردن السبب الثالث. وعلى العموم كانت رحلة جميلة لطيفة كنت فيها على ما يبدو الصاحي الوحيد لأن المضيفات ما تأخرن عن طلب طلبته وقد شربت القهوة أكثر من مرة أثناء الرحلة وخاصة عند الهبوط، لأن التوتر قلَّ فأحببت أن (أمنجه) أو أدلِّع نفسي شوية.

 وأخيراً تهادت الملكية الأردنية على أرض مطار مسقط وكان يُسمى مطار السيب" الدولي مفتتحة حياة جديدة لنفر أردني في بلدهم الثاني سلطنة عمان. نظر بعضنا إلى بعض، ومنا من كان يحاول أن يخفي سروره كعادتنا نحن الأردنيين، لأننا لا نريد أن نظهر بمظهر من يحتاج الوظيفة، لكن طبعاً كان هذا الذي يخفي سروره أسبقنا إلى باب الطائرة لولا أن دفعته المضيفة إلى الخلف لأن الأولوية بالنزول هي لأصحاب الفضيلة ركاب الدرجة الأولى.

دلفنا إلى باب الطائرة ثم السلم فإذا بنا كمن يدخل حمّام الساونا من شدة الحر وارتفاع الرطوبة، وكان هذا بداية معرفتنا بطقس الخليج الحقيقي. وفي صالة المطار وجدنا صفاً من الزملاء ولا أدري هل كانوا من جماعتنا عن نفس الرحلة أم من الرحلة التي سبقتنا وقد اصطفوا بانتظار مسؤول ما؛ وأرجِّح أن منهم من كان على رحلة طيران الخليج باليوم السابق لأنني اكتشفت أن رحلة الخليج توقفت بالبحرين وحضرت إلى مسقط منتصف الليل، وكان على ركابها المعارين للسلطنة الانتظار لليوم التالي.   لهذا كنا في الهم سواء.

لقد كان هذا التصرف غريباً فلماذا الوقوف بالصف ولماذا الانتظار كل هذا الوقت، فلم نعتد على هذا بعد. لقد كان هذا الاستغراب ليس بمحله، ولكنها ساعة ضيق طبعاً من السفر فالسفر قطعة من العذاب. لم يكن الأمر بهذه السهولة أن نصل ونختم جواز السفر ونخرج؛ ولم نفكر بمن سيستقبلنا. لقد كان هذا إجراء روتينياً لأننا يجب أن ندخل بفيزا جماعية على كفالة الوزارة، ولهذا يجب حضور الموظف المسؤول للتوقيع على (العُهدة)؛ نعم كنا كما (العُهدة) أيام زمان ولا أدري إن كان الأمر ما يزال على هذا المنوال أم تغير بالنسبة للمعارين إلى وزارة التربية والتعليم. ما أعرفه هو أنه بما يخص موظفي وزارة القوى العاملة والتعليم العالي فقد تغير، حيث يحضر المدرس بفيزا منفصلة ويختم جواز سفره ويخرج دون انتظار.

حضر الموظف وتمت الإجراءات وخرجنا صفاً كلٌ إلى الحافلة التي ستقله إلى مكان عمله. ولقد كان هناك عدد لا بأس به متوجها إلى محافظة ظفار (وكانت تُسمى المنطقة الجنوبية آنذاك)، وطلب الموظف الصعود إلى الحافلة للتوجه إلى صلالة، ولم نكن نعرف المسافة بينها وبين مسقط.  هنا لا أدّعي الذكاء والفطنة بل كان تدبير رب العالمين فقط، ولكني أذكر أنني تقدمت من الموظف وأخبرته أننا معارون إلى "ديوان عام الوزارة" كما رأيت بالكشف، وهنا قال الموظف " أنتم وقفوا على جنب" وغادر الإخوة معلمو التعليم العام على متن حافلة مستأجرة إلى صلالة وكانت رحلتهم أشبه ما تكون برحلة أبي العلاء البشري بالمسلسل الشهير، مليئة بالأحاديث التي لا مجال لسردها هنا لأنها خارج موضوعي الخاص.

نظر زميلي وصديقي إلى الحافلة وهي تسير مبتعدة ونحن بالمطار فقال لي " تشيف ساويت بينا هيتش، فنحن نعرف أنفسنا بصلالة ليش ما طلعنا بالباص معاهم".  فقلت له لا أدري هذا ما حصل. ركبنا حافلة مع المسؤول، وتوجه بنا إلى سكن للمعهد الديني بالوطيّة بمسقط حيث كان يوم الخميس. وأُعطينا سكناً مؤقتاً حتى نقابل المسئولين بالوزارة يوم السبت. فنمنا جميعاً وبعد أن استفقنا خرجنا لنبحث لنا عن شيء نأكله وسرنا بالشارع المجاور ورأينا كم هي نظيفة مسقط. وما أدهشني كذلك التزام السائقين والركاب بالقواعد المرورية، فعند محاولتي عبور الشارع قدمت سيارة مسرعة فرجعت خوفاً، فما كان من السائقة إلا أن أعطت إشارة التوقف الرباعية لأعبر الشارع عند الخطوط البيضاء. كذلك لاحظت التزامهم بوضع حزام الأمان لأن عدم الالتزام سينتج عنه مخالفة لا واسطة فيها.

كان الأستاذ جاسر عنانزه زميلي في كلية حوارة يعلم بحضورنا عندما كنا نلتقي بالأردن، فحضر لعندنا مع زميل أردني آخر عرفته في عُمان وهو الأستاذ محمود البوريني وكان يعمل بكلية الحصن كأمين مكتبة. اصطحبونا بسيارتهم في جولة بمسقط، ثم دعونا إلى الغداء بمنزلهم بالكلية المتوسطة بالقرم.   و كانوا "معزبين لنا " كرماء حقا فجزاهم الله كل خير.


و بالإضافة إلى ملاحظاتي السابقة عن مسقط اكتشفت اكتشافاً آخر وهو اللغة. نعم سلطنة عمان دولة عربية وتتحدث العربية لكن اللهجة عندهم لم تكن مفهومة لدينا، فعندما كنا نسمع أثنين يتحدثون لا نفهم ما يقولون، ولقد زال هذا اللبس لاحقا طبعا بعد مدة من الزمن وخاصة في صلالة. كذلك لاحظت انه يجب أن تتحدث الإنجليزية لكثرة وجود العمالة الوافدة من إخواننا الهنود. ولكن الانجليزية هذه تختلف عن تلك التي تعلمناها بالمدارس فهؤلاء العمال لا يفهمون الانجليزية الصحيحة، ولكن يجب تطعيمها بمفردات مكسرة حتى يفهما الهندي. وهنا أذكر قصة حدثت معي بعد وصولي صلالة عندما توجهت لمستشفى السلطان قابوس لاستخراج بطاقة العلاج والتي يحررها موظف هندي. وللتوضيح يجب التذكير  أن معلومات الهندي عن خلق الله في صلالة كانت أنهم ثلاثة أصناف لا رابع لهم: العُماني الذي يلبس الدشداشة العُمانية، والهندي الذي يعرفه من سحنته، والعربي وكلهم (أي العرب) عنده نفر مِسري (أي مصري)، فأخذ المعلومات مني من اسم وخلافه إلى أن وصل إلى خانة الجنسية على البطاقة فكتبها دون تردد ودون استشارتي: أيجبتشن (Egyptian)،  فقلت له: نو أنا جوردانين فنظر إليّ مستغرباً، فوضحت له الأمر (I am from Jordan) فمسح كلمة اجيبتشن و كتب جورداني، فقلت له اكتب جودينيان، فلم يعجبه الأمر وقال موضحاً ومُعلماً (جوردان جورداني سيم سيم عُمان عُماني، أنت أنجلش ما في معلوم؟!)، قلت له و الله أنت أعرف (As you like)، وبقيت كلمة جورداني على البطاقة إلى أن قيّض الله لها شخصاً آخر "انجلش حقيقي في معلوم".

الثلاثاء، 9 أغسطس 2016

الطريق الى عمان تتمة الفصل الأول

بلغت القلوب الحناجر 

 في الوقت الذي كنتُ وزملائي بانتظار التأشيرات والتذاكر، وبينما كنا نصحح مبحث اللغة الانجليزية للامتحان الشامل لكليات المجتمع بمدرسة الأميرة عالية بجبل اللويبدة، وإذا بالأخبار تأتي بما لا يسر صديقاً ولكنه طبعا يسر عدواً؛ هذه الأخبار تركزت حول حدث شكل ضربة من الضربات المتتالية لتدمير مقدرات الأمة العربية و هو احتلال صدام حسين للكويت.

ليس المقام هنا لتبيان الرأي حول هذا الغزو الذي شرخ الصف العربي المشروخ أصلاً إلا من ورقة التوت فقط، ولكن سيكون الحديث عن انعكاس هذا الحدث علينا كمعارين لدولة خليجية ترتبط مع الكويت بمجلس التعاون الخليجي.

هذه الأيام بلغت القلوب الحناجر. و انقسم الإخوة المعارون على أنفسهم: فمنهم من قال بأننا لن نُؤخذ وراحت علينا لأسباب سياسية طبعا، حيث صُنف الأردن ضمن الدول الداعمة لصدام. وقال آخرون سنذهب لأنه لا دخل للسياسة بالتعليم.  وكانت وزارة التعليم العالي (وزارتنا) بحيرة فجوابهم واحد اذا ما سئلوا " مش عارفين والله". وبقينا في (حيص بيص) فلا الوزارة تعرف ولا يجرؤ أحد على سؤال السفارة العُمانية. ولا ألوم الجميع لأن الأمر كان يجعل الحليم حيراناً.

لكن طبعاً من يعرف عُمان وسياستها كما عرفناهم لاحقاً يعرف أنهم لا يمكن أن ينكثوا وعداً قطعوه ولا عقداً أبرموه. نعم تم استدعاؤنا في آخر شهر أغسطس وأعطينا التذاكر وحدد موعد السفر ليكون يوم 5 / 9 / 1990. 

الرحلة الى مسقط

صباح يوم 5 / 9 / 1990 غادرت البيت مصحوباً بأسرتي الصغيرة لوداعي بالمطار متوجهين إلى العاصمة عَمَّان ثم إلى مسقط عاصمة سلطنة عُمان. لا أدري كيف وصلت و بأي وسيلة نقل جئت لأن الفكر مشغول كمنولوج داخلي في التخطيط للمستقبل والتفكير بما تحمله الأيام في العالم الجديد.

أما طفلاي الصغيران محمد (2.5 سنة) وسمو (تسعة شهور) فكان لكل منهم نظرته في الرحلة؛ فمحمد حقق أمنيته بالركوب على دراجة رقيب السير الأردني الذي كان موجوداً هناك بتلك اللحظة، وكان فرحاً جذلاً ولا يعرف أنه سيعود إلى إربد برفقة والدته فقط. أما سمو فكانت تتابع ما يجري بعينيها الصغيرتين فقط لأنها لم تكن قد درجت مشياً بعد وكأنها تودعني.

لقد كان من المفروض أن نسافر على متن طيران الخليج فلم يكن الطيران العماني قد باشر رحلاته، ولكن ولسوء التخطيط الذي يصاحب الرحلات الجماعية عادة فقد فقدنا كل مقاعدنا ولم تحصل المجموعة التي تضمنا على أي مقعد، وعندما ارتفعت الأصوات وجدنا من مثلنا عدد لا بأس به من الذي فقدوا مقاعدهم لمسقط. أصبحنا في حالة ضياع ولم نجد من نكلمه أو نشكوا  إليه وكان أمرنا يعود بين الفينة و الأخرى إلى موظفه دائمة الصراخ اسمها سوسن تعمل على طيران الخليج ( و بالمناسبة عندما تم اقتسام طيران الخليج بعد تفككه كانت سوسن من حصة الطيران العُماني، وكل ما في الأمر أنها غيرت الزي فقط، ولكن حنجرتها بقيت كما هي تصرخ على كل شيء).

هنا كان لا بد من فراق الزوجة والأولاد لأننا أيقنّا بطول المدة الباقية بعد أن طارت الطائرة، وبعد وداع قصير بقينا نبحث عن مسؤول نكلمه إلى أن أطل علينا موظف من السفارة العُمانية بالأردن. وقد بدأ (سلمه الله) أولاً بلومنا على تأخرنا على الطائرة ( لأن الحق دائما على الطليان)، ونسي سعادته أن السفارة هي من حجزت التذاكر وأبقتها عندها إلى أن دعتنا لاستلامها قبل السفر بيوم. المهم قال أنه سيبحث عن حل فانتظرنا الحل.
  
نعم، أخيراً جاء الفرج وهو تحويلنا إلى رحلة للملكية متجهة إلى مسقط اليوم الثاني صباحاً وضربوا لنا موعدا الساعة الواحدة صباحاً. جلسنا (مجموعة المتأخرين) نتجاذب أطراف الحديث ونسينا ما كان من مشقة الحضور والانتقال من مبنى إلى آخر بحثا عن رحلة طيران تقلنا لأن المهم هو السفر حتى لو كان متأخراً أربعاً وعشرين ساعة. وبمناسبة التأخير شهدنا الكثير من حالات التأخير هذه كل صيف عندما كنا نسافر للأردن لأن طريقة الحجز كانت بأن تحجز الكلية التذاكر وليس نحن، وعرفنا بعد ذلك أننا كثيراً ما نكون ضحية أن تسحب مقاعدنا وتعطى لركاب آخرين لسببين أولهما وأهمهما هو أن الكليات لا تدفع فوراً ثمن التذاكر بل تأخذ إجراءات طويلة لذلك لم نكن ضمن سلم أولويات مكاتب الطيران أو الموظف الذي يحجز التذاكر لأن الموضوع بالنسبة له عمل يقوم به روتينياً وليس صاحب حاجة حقيقية؛ وثاني الأسباب هو أننا كموظفين لم نكن نملك قرار تغيير شركة الطيران أو الموعد؛ لذلك لم يكن بمستغرب أن نمر بمثل هذه الظروف وقد تنفسنا الصعداء  لاحقاً عندما غيرت الوزارة من طريقة الحجز، وأعطتنا 75% من قيمة التذكرة نقداً وتركت لنا حرية الحجز. فأصبحنا نختار الرحلة واليوم والصُحبة كذلك، لأنهم كثيراً ما كانوا يحشروننا بما كان يُعرف سابقا بالرحلات الجماعية وهي خاصة بالمعلمين وتنطلق من صلالة الى عمان فوراً، و قد شكل هذا سبباً آخر لزحلقة تذاكرنا لحساب أشخاص يودون السفر للأردن ليسهلوا عليهم ذلك. وبالمناسبة تحتاج الأنماط الشخصية للبشر في الرحلات الجماعية لكتاب منفصل بما فيها من الطرائف والغرائب كالتي كان يقدمها المرحوم الدكتور محمد توفيق البيجرمي على التلفزيون السوري بالقرن الماضي.  

 نعود بكم إلى مطار الملكة علياء لمتابعة الرحلة الأولى إلى مسقط.  وقبل الحديث عن الرحلة، أود أن أسرد طرفة أضحكتنا كثيراً بالمطار؛ وهي أن أحد الزملاء كان يُغدق على المسؤول العُماني عبارة " طال عمرك" كثيراً، وكان جاداً طبعاً ولا يلتفت إلى تعليقاتنا وضحكنا حول الموضوع عندما كنا نقول له أنه على ما يبدوا قد كثف من حضور المسلسلات الخليجية كنوع من التحضير لحياة الخليج. كذلك لم ألحظ اهتمام المسؤول بعبارة زميلنا الكريم. أخيراً اقتنع الزميل أن " طال عمرك" لن تنفعه فقد كان الزميل يأمل أن يجد له " طال عمره" مقعداً على رحلة الرابعة عصراً ليصل قبلنا وربما يباشر عمله قبلنا كذلك. لهذا كنا نحن والزميل الكريم على نفس الرحلة. وعند دخولنا مبنى الوزارة بمسقط صرفها كذلك لبعض الإخوة في الوزارة، فهمسنا في أذنه " يا زلمة مش راح تنفع هون، اسكت" فسمع النصيحة و سكت.


الجمعة، 5 أغسطس 2016

الطريق الى صلالة الفصل الأول

مقدمة الفرج

لقد بدأت سلطنة عُمان بتطوير الكليات المتوسطة للمعلمين فيها وزيادة عددها لتخريج معلمين للمرحلة الإلزامية من أجل تعمين هذه المرحلة. وقد حدث اتصال بين وزارة التربية والتعليم العمانية ووزارة التعليم العالي الأردنية لاستعارة معلمين من الكليات الأردنية والتي كانت تعرف في ذلك الحين بكليات المجتمع وبدأت بالفعل سلسلة الإعارة منذ تلك الفترة وهي عام 1985 / 1986 وقد ذهب أخي و زميلي بالدراسة والوظيفة الأستاذ جميل مناصره معاراً إلى سلطنة عمان عام 1987 وكان مركز عمله في الكلية المتوسطة للمعلمين بصلالة.  وكنت أحرص على اللقاء به في كل إجازة ليحدثني عن صلالة والإعارة ليعطيني دفعة من الأمل بأني سأحصل على هذه الوظيفة، إنما هي مسألة وقت.

إن أول معلومة حصلت عليها من الأستاذ الجميل جميل هو أن الرواتب لمعلمي الكليات مرتفعة وقد تكون أفضل من الرواتب بدول الخليج الأخرى بخلاف رواتب المعلمين بالمدارس، فحدثنا عن سلم الرواتب والدرجات الخاصة التي قال انه لا تُعطى للجميع وحسب الشواغر هناك، ولكنه قال أن الدرجات الخاصة  يمكن أن تعطى لفئة معينة فقط ولم يكن هو على الدرجة الخاصة . وبالمناسبة فقد أصبحتُ خبيراً بالحديث عن ميزات الخدمة بالكليات قبل أن أصبح عضواً فيها لأنني كنتُ مستمعاً جيداً للأستاذ جميل و لزميل آخر من كلية مجتمع حوارة التحق بكلية القرم المتوسطة عام 1989 معلماً للتربية الرياضية وهو الأستاذ جاسر عنانزة.

لا أدري فربما يكون هذا نوعاً من الاستشراف المستقبلي فقد تعلق القلب بعُمان من تلك الأيام،  وكنت أعتبر المسألة مسألة وقت و أنا خارج إلى صلالة قطعاً، لذلك بدأتُ بجمع المعلومات عن عُمان عامة وصلالة خاصة، كان أكثر ما يهمني بهذه المعلومات هو الطقس شأني شأن كل مغترب مع العلم أنني ما كنت لأتردد بقبول الأعارة حتى لو كانت جحيماً والسبب يعرفه كل أردني طبعاً وهو تأمين المسكن للعائلة التى بدأت بتكوينها عام 1986، فالمسالة لا تحتمل أن نبقى نسكن بشقة بإيجار شهري، والسبب الأخر هو كما أسلفت سابقا أن باب الإعارة قد أغلق علينا إلا باب عُمان وسبب ثالث قد لا يصدقه القارئ و هو فعلا عدم رغبتي بالرجوع لمستوى التدريس بالمدارس معلماً بعد أن كنت أخرّج المعلمين بكلية مجتمع حوارة.

لقد كان كل ما جمعته عن سلطنة عمان يقربها مني يوماً بعد يوم فلم أسمع عنها وعن شعبها إلا كل خير، أما ما سمعته عن صلالة فكان من الروائع التي كنت أعتقد أن محدثي يشوقني إليها مجاملة فلا يمكن أن تكون مدينة بالخليج بهذه الروعة، فالخليج بلد الحر و الصحراء مما جعلني أكثر من الدعاء في صلاتي لأن أكون في صلالة معتبراً أمر القدوم إلى سلطنة عمان تحصيل حاصل كما يقولون.


جاء الفرج

 في بداية شهر حزيران (يونيو) من عام 1990  وفي حوالي الساعة الخامسة عصراً وبعد عودتي وزوجتي وأطفالي الصغار من واجب اجتماعي قصدنا به وجه الله، فحفظه الله ونسيه المستفيدون منه، طرق بابي الأستاذ نواف عبيدات زميلي في كلية مجتمع حوارة حاملا البشرى (نعم هي بُشرى، فأنا لا أخفي عواطفي ولا أتستر خلف قناع زائف) بأنني مطلوب لمراجعة اللجنة العمانية لاختيار معلمين للكليات المتوسطة في نادي طلبة سلطنة عُمان. وبسرعة تمت الإجراءات وقابلت الأستاذ جابر العبري مدير دائرة إعداد و توجيه المعلمين بوزارة التربية و التعليم العُمانية آنذاك، وكانت عبارة عن إجراءات بسيطة لأننا أُخذنا كمعارين من الوزارة وليس تعاقداً شخصياً.

عدت الى البيت لأجدد جواز السفر و أعود باليوم التالي لأجد فوق الطلب الذي يخصني كلمة "مناسب" وعلى جدول الأسماء الذي كان موجوداً على الطاولة كلمة صلالة والحرف " هـ" مقابل أسمي، وعلى الفور وقع في نفسي أنني اُخترت لكلية صلالة وأن الدرجة التي أُعرت عليها هي الدرجة الخاصة " هـ" التي كنت أسمع عنها، فطرت فرحاً، ولكن سرعان ما خمدت الفرحة عندما علمت أنني الوحيد الذي اطلع على هذه المعلومات دون غيري فقلت في نفسي أنني ربما تسرعت برؤية الأشياء ، وأن هذه الأشياء ستتغير فلا داعي لهذا الفرح، فعدنا إلى المربع الأول من القلق.

وفي شهر تموز ( يوليو) استكملنا جميع الوثائق و أصبحنا ننتظر التأشيرات وتذاكر السفر الى أن حدث ما لم يكن في الحسبان.





بلغت القلوب الحناجر 


الأربعاء، 3 أغسطس 2016

الطريق الى صلالة / الفصل الأول

الفصل الأول

بداية الطريق

كانت بداية سماعي بعُمان أيام دراستي الإعدادية قبل عام 1970 وللأسف كانت معلومات قليلة ولا تتناسب مع حجم وتاريخ هذا البلد المجيد كما عرفت لاحقاُ وكما سأحدثكم عنه في السطور القادمة. ثم سمعت عنها أكثر عندما قدر لأحد أفراد قبيلتي (وهو مختارها الآن)  الحاج سليمان محمود مصطفى الخطاطبة (أبو يحي) أن يخدم في صفوف الجيش الأردني بالسلطنة ببداية  عهد النهضة، ثم غادرنا الأستاذ شفيق عجاج مدرس اللغة العربية بمدرستي معاراً إلى السلطنة ليعمل فيها معلماً في صور. و في هذه الفترة توطدت العلاقة بين صاحبي الجلالة السلطان قابوس بن سعيد أطال الله عمره وجلالة المرحوم بإذن الله الحسين بن طلال طيب الله ثراه، وكثرت الزيارات المتبادلة بين البلدين، فأصبح اسم عُمان يتردد كثيراً في الأردن.

في عام 1978 تخرجت من الجامعة وانخرطت في سلك التدريس ولكني كنت خلال هذه الفترة لا أكترث بموضوعات تشغل بال الكثيرين من أصحاب الأسر والعائلات الكبيرة وهي الإعارة والعمل خارج الأردن فقد كنتُ أعزباً ولا أحتاج الى ما يُسمى بتحسين الوضع.  ولكن عندما كان يذكر موضوع الإعارة ينصرف النظر إلى الإمارات أولاً ثم باقي دول الخليج، بخلاف الأمر في الستينات حيث كانت الكويت على سلم الأولويات، ثم السعودية  في السبعينيات. ولم تكن عُمان من ضمن أولويات المعلمين لتدني الرواتب فيها في تلك الفترة.

عام 1985 حدث أمران  مهمان بالنسبة لي على المستوى الشخصي: الأول هو استحداث وزارة التعليم العالي بالأردن والتي علّقنا عليها آمالاً كباراً بالبعثات وتحسن الظروف المالية وتطوير الكليات لتصبح كالجامعات، فقد كانت طموحاتنا أن نصبح كمدرِّسي الجامعة وضعاً و راتباً. للأسف خابت آمالنا ولم نحقق شيئاً مما كنا نصبوا إليه لأن الأمر كما تبين لاحقاً كان يهدف إلى فصل الكليات عن وزارة التربية فقط، وربما لتولية أحدٍ ما منصب الوزير أو الأمين العام. وقد ازدادت آمالنا بالتطور الأكاديمي على الأقل عندما عُين الدكتور ناصر الدين الأسد العالم العلامة الكبير وزيراً للتعليم العالي.  ربما سيحدثنا البعض عن الاعتماد العام والخاص وما شابه ذلك للكليات كإنجاز لمعالي الدكتور، ولكني في الحقيقة لم ألمس شيئاً يُذكر إلا تولية بعض الدكاترة المغمورين منصب عميد الكلية بعد أن كان سوقهم راكداً؛ فقط لأن من معايير اعتماد الكلية أن يكون العميد يحمل درجة الدكتوراة؛ فكان الأفضلية لمن يحمل هذه الشهادة من موظفي الوزراة نفسها.  لكن والحق يقال أنني سمعت أن معاليه وفي أول اجتماع له مع لجنة الإشراف على الامتحان الشامل للكليات صحح مفهوماً لغوياً للظرف الذي كنا نضع فيه الأسئلة، فقد سمع أحدهم يقول نضع الأسئلة في المغلَف فصححه قائلاً بل تضعها في المُغلِف وليس المُغلَف لأنه يقوم بالتغليف كاسم فاعل على ما أظن في حين أن مغَلّف اسم مفعول. وبخلاف ذلك لا أذكر للدكتور ناصر الدين الأسد أثراً ملموساً في وزارة التعليم العالي الأردنية.

أما الحدث الثاني فهو الانفصال التام والقطيعة بين الوزارتين التربية والتعليم (الأم) والتعليم العالي (الوليدة) بحيث أصبحت العلاقة بين الوزارتين أشبه ما تكون (بالضراير) من النساء. وقد سحبت وزارة التربية والتعليم كل الميزات الممنوحة للمعلمين الذين انتقلوا إلى التعليم العالي كحالة الكاتب (على قلتها آنذاك) وأهمها موضوع الإعارة؛ فقد صدر توضيح أن الإعارة خاصة بمعلمي التربية والتعليم ولا يحق لمن التحق بالتعليم العالي المطالبة بها. وبدلاً من أن تساعد وزارة التعليم العالي موظفيها بالحصول على حقهم أخذتها العزة بالإثم و زادت عليه بأنها ترفض أن ينزل مستوى موظفيها للتدريس بالمدارس من أجل (دريهمات زائلة) وهم الأكفاء الذين يدرسون بالتعليم العالي.  وهنا أغلقت الأبواب جميعها باستثناء باب واحد وهو باب الله تعالى وهو الرزّاق الذي لا تنضب خزائنه. وبالمناسبة أصبحتُ من المهتمين بموضوع الاعارة بتلك المرحلة لأنني تزوجت و بدأ الحديث يختلف عن أيام العزوبية.

تعرفت خلال تدريسي بجامعة اليرموك كمحاضر غير متفرغ في مركز اللغات على بعض الطلبة العُمانيين، ولكن ما زلت أذكر الطرفة التالية مع أحد الشباب العُمانيين.  في عام 1987 كنت أدرّس مادة (E114) في إحدى قاعات مبنى الآثار وكان الوقت عصراً. دخلتُ القاعة في أحد الأيام و إذا بي أمام شيخ من شيوخ عُمان كالذين نراهم بالتلفزيون في القاعة الصفية، فشعرتُ بالحرج أمامه لأننا عادة لا نسمح بدخول الضيوف بدون استئذان مرافقيهم من الطلاب قبل المحاضرة لأسباب لا مجال لذكرها. وشعرت بالحرج أمامه وهو يجلس على أحد المقاعد، فقلت وقد بدا عليّ الغضب "، هذا الضيف .... من الطالب الذي استضافه بالمحاضرة؟" فضحك الضيف وقال " يا أستاذ ما عرفتني!! أنا صقر الشكيلي" وهو أحد طلاب المساق معي، فارتحت لأن هذا جنّبنا الإحراج، وقلت له يا صقر شو المناسبة لهذا اللباس؟ فقال إنهم يحتفلون بالعيد الوطني بنادي طلبة سلطنة عُمان بجامعة اليرموك، وكان الحفل بعد المحاضرة، فلا وقت للذهاب للبيت لتبديل الملابس، فجاءنا بالبشت العماني والدشداشة العمانية والمصر والشال والخنجر ولست أذكر إن كان معه السيف أو العصا أم لا، إذ ربما تركها بالسيارة. كانت هذه فرصتنا لنرى اللباس العماني بدون التلفزيون، وتعرفت كذلك على مفهوم العيد الوطني العماني.