الثلاثاء، 14 فبراير 2017

تابع

أسيادنا المشايخ

بدت عليَّ ظاهرة منذ الصغر و هي حبي لشيوخ الدين و محاولة التقرب منهم للأستفادة من علمهم، وكنت منذ الصغر أحرص في غالب الأحيان أو أوصل الشيخ محمد الخطيب رحمه إلى بيته بجديتا لأنه كان ضريراً؛ طبعا لم يكن يحتاج الشيخ لهذه المساعدة لأنه رحمه الله كان أكثر بصيرة من كثير من المبصرين، ورويت عنه أكثر من رواية حول قوة إدراكه للأمور التي يعجز عنها المبصرون ومنها مثلاً رواية أنه أخذ بيد أحد المبصرين إلى بيته ( بيت المبصر) لأن هذا المبصر ولشدة الظلمة وفي ليلة من ليالي الشتاء شديدة السواد اختلط عليه الأمر عند خروجه من تعليلة بالمضافة، ولم يستدل على بيته، وقد سألته رحمه الله عن هذه الرواية فأيدها .  وقد بقيت هذه الظاهرة معي حتى عندما ذهبت إلى دير أبي سعيد لإكمال دراستي الثانوية فتعرفت على بعض المشايخ هناك، لكن هذه الظاهرة  أختفت بصويلح أثناء دراستي الجامعية ربما لأنني كنت أصلي بالبيت و لم أكن مواظبا على صلاة الجماعة بالمسجد. 

عند حضوري لصلالة ثارت هذه النزعة مجدداً، فأصبحت أبحث عن الشيوخ ولهذا تنقلت من مسجد لمسجد ، وكان السبب إضافة لنوعية الخطبه هو محاولة مصادقة أحد الشيوخ، فلم أجد.  وربما يعود السبب أنني لم أكن أعرف كيفية الدخول إلى هذا العالم،  ففي الغربة يكون الجميع حذرا من الجميع لهذا قلّ أن تجد من يفتح لك قلبه لمجرد أنه رأى بك خيراً أو رغبة بمصادقته، إذ يبرز السؤال " أشمعنى اختارني دونا عن باقي الخلق"؛ نعم هو عالَم لمن يجهله،  فالشيوخ هم أصدقاء الخير وهم كحامل المسك الذي إن لم تستفد منه مباشرة فأنك تنال منه الريح الطيب، وهي في هذه الحالة السمعة الطيبة، فالمرء على دين خليله، و يُحشر المرء مع من أحب، وعلاقتي بهم كانت بهذا الاتجاه، حيث كنت أرى فيهم المثالية، وأغضب منهم في بعض المرات وأصارح بعضهم في بعض الأحيان عندما أرى سلوكا لا يعجبني أو استغربه، فيقول لي يا أخي إنما نحن بشر؛ أقبل التبرير وأعرف أنهم بشر ولكنني  كنت أريدهم بدرجة عليا من البشر.

كانت بداية معرفتي بأسيادنا المشايخ بعقيقة لإبنة الدكتور محمد مصطفى رضوان عليه رحمات الله حيث كان زميلي بالكلية المتوسطة للمعلمين مدرساً للغة العربية،  فقد دعانا ذات يوم الى غداء بمناسبة عقيقة لأبنته المولدة حديثا، فذهبنا.  إن أجمل  ما في الجلسة بالإضافة إلى معرفتنا بأسيادنا هو التعرف على جانب مشرق من حياة الإخوة المصريين.  كان الغداء هو (الفَتّة) المصرية، و هي عبارة عن الخبز مقطعاً ويسكب عليه شراب الطماطم الحار كملين للخبز، فأعادتني سنوات إلى الوراء  بالأردن عندما كان البعض يستعمل هذا كتشريب للمناسف لظروف مادية.  كذلك لوحظ أن اللحمة يتم توزيعها بالعدد حيث يجب أن ينال كل فرد من المدعوين  قطعة لحم واحدة.  هنا رأيت البركة بعينها؛ فالجميع أكل وشبع وحمد الله و أثنى عليه.

 كذلك لاحظت حرص الإخوة المصريين بذلك الوقت على توثيق هذه المناسبات بالصوت والصورة حيث كان هناك تسجيل فيديو للحفلة واثناء ذلك دار المايكرفون على الجميع ليقول كل واحد تهنئة للدكتور بمناسبة المولودة، فدعونا لها بطولة العمر وشكرنا الزميل الكريم.

 وكان مسك الختام روائع أسيادنا المشايخ، فقرأوا القرآن ولأول مرة في حياتي أسمع القرآن مجوّداً من القارىء مباشرة وليس من الراديو أو التلفاز، فسماع القرآن مباشرة يجعلك تحلق مع كل آية منه.  هناك شاهدت سيدنا الشيخ محمود غريب عن قرب أيام كان شاباً, وأعجبتني روحه المرحة، فلم أكن قد تعرفت بعد على روائعة الدينية، وقد لاحظت أنه كان يحظى باحترام الجميع وتقديره.  وسمعنا المرحوم الشيخ وجيه وهو قارئ متميز وكان يعمل بالديوان السلطاني، لكن الذي أعجبني بالقراءة هو ذاك الشيخ الجليل الذي نسيت اسمه حيث كان بالإضافة إلى كونه قارئا رائعاً إلا أنه أيضا كان يقلد المقرئين الآخرين.  فكان الشيوخ يقولون له " والنبي حتة من الشيخ الحصري" وياريت تسمعنا  الآية الفلانية ازاي بيقراها عبد الباسط ...." إلى آخر ذلك من المقرئين رحمهم الله. وكانوا يتحفونه بعبارات ( الله الله، ربنا يفتح عليك، الله الله يا سيدنا) وهو يتجلى أكثر فأكثر محلقاً في عالم القرآن الكريم.  ويا لقراءة القرآن من قارئ مصري بشكل شخصي وليس أمام شاشة التلفزيون أو من المذياع، فقد أصبحت ومنذ ذلك التاريخ من المؤمنين بمقولة أن القرآن نزل بمكة و قُرئ  بمصر.   

كما أسلفت سابقاً لم أتمكن من متابعة علاقتي بأسيادنا المشايخ متصلة بسبب السكن الى أن شاءت إرادته تعالى أن نلتحق بركبهم وخاصة بعد الحج بعام 2001؛ صليت الجمعة بمسجد المعشني مع الشيخ محمود غريب وكانت بداية حقيقية دامت إلى أن شاءت ارادة الله تعالي أن تنتهي خدمات الشيخ الجليل ويعود إلى بلده، لكني لاحظت أن الشيخ محمود بالمرة الثانية التي التقيته بها لم يكن هو نفسه الشيخ الذي رأيته ببداية التسعينيات فقد بدا عليه الكبر، وبدا متعباً رغم محاولته إخفاء ذلك بسبب وفاة زوجته عليها رحمات الله، فقد تركت وفاتها أثراً كبيراً في حياته، وظل يذكرها بالخير بكل مناسبة يأتي ذكرها.


الفاتحة لروح الشيخ محمود غريب.
 
وقد حرصتُ منذ بداية علاقتي معه أن أذكِّره بجلسة الدكتور محمد مصطفى رضوان رحمه الله وكان يذكرها إلا نه كان ينسى جنسيتي كثيراً وأخيراً استقر الوضع عنده أنني عراقي من فرط حبه للعراق التي قضى بها ثمان سنوات قبل مجيئه لصلالة، ونادراً ما كانت تمر جلسة لا يعرج بها الشيخ على العراق وطيبة أهله وحبهم له وتقديرهم لجهوده بالعراق بجامع البنية الذي كان يخطب به، وأنا أشهد له بصدق رواياته لأنني سمعتها بنفسي من زميل عراقي حضر لصلالة ضيفاً ذات مرة.  وبعد أن توطدت العلاقة بيننا رسخ بذهنه أنني أردني، واستمر حبل الود بيننا، فكنتُ من المواظبين على حضور ندوة الأسئلة بعد صلاة الجمعة، ودروس الثلاثاء للتفسير، وكان له حلقات مسجلة على التلفزيون العماني، إضافة لظهوره على قناة البغدادية ليتحدث بها عن ذكرياته بالعراق.

ومن الملاحظ على سيدنا الشيخ محمود هو أنه كلما تقدم به العمر زاد نشاطه وشبابه الدعوي، فما أن يصعد المنبر حتى تراه شاباً متسلسل الأفكار وثري المعلومات، يقف منتصباً لا يستند إلى عصا إلى أن وضعوا له منصة أمامه فأصبح يستند اليها بالفترة الأخيرة.  وكان لا يتردد بتلبية أى دعوة توجه له لإلقاء محاضرة دينية هنا أو هناك مثل الكلية التقينة التي ألقى بها محاضرة حول الاخلاق بالإسلام، ومحاضرة بجامعة ظفار بعنوان ( الا رسول الله).  وهو صاحب مشروع كلنا بخدمة النبي وهبه لكتابة مقالاته المتنوعه التي يحدثنا بها عن تجربته بالدعوة، وقد كتب العديد من الكتب.


إلا أنه كان يؤخذ عليه من قبل من كان يسميهم (الصغار) أنه يكثر الحديث عن نفسه، ويستغرب لهذا الطرح وهذه التهمة ويقول (أنا أتحدث عن تجاربي بالدعوة، فلماذا يغضبون؟) حيث أنه كان يستشهد عند كل موقف بحادثة حدثت معه، وكان يضحك من هذه التهمة ويقول ( عندما يسمعوني أقول : أنا ابن جلا و طلاع الثنيا يبأوا يزعلوا).   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق