الفصل السادس
الخريف في صلالة
كما أسلفت في مكان سابق أن موقع صلالة جنوبي مدار السرطان جعلها عرضة لنوع من
المناخ يسمونه هنا بالخريف. والخريف باللهجة المحلية هي حالة مناخية تلف صلالة من
الثامن عشر من حزيران يونيو إلى الحادي والثلاثين من شهر أغسطس آب الغيوم بدثار
لطيف يخفف من حر الخليج الصحراوي فتجعله جواً رائعاً يطلبه سكان الخليج كله. وقد لفت نظري هذا التسمية من أول دخولي السلطنة
عندما قال سائق الحافلة التي أقلتنا إلى سكن الوطيّة بمسقط وقال "هالحين أواخر الخريف وراحت عليكم
السنة"، فاستغربنا وضحكنا وتساءلنا ما الذي يمكن أن نراه بالخريف، وكنا نحمل
بأذهاننا المعنى التقليدي لفصل الخريف الذي يسبق الشتاء بمناطقنا، وهو جو مقيت
تتساقط فيها أوراق الشجر و تجف الأرض استعداداً لغيث الله سبحانه وتعالى. وتُستعمل
كلمة الخريف بالشعر والأدب النثري بعدة معانٍ تُجمع كلها على نهاية الأشياء أو قرب
نهايتها، لذلك هي ترتبط بالبؤس والشقاء.
عندما استيقظنا صباح الثامن من شهر سبتمبر بصلالة للتوجه إلى الكلية خرجنا
إلى الشارع لنجد الأمطار وبقايا لسعة برد نسيها الليل في شوارع صلالة، وعندما
اندهشنا قال لنا مرافقنا انه الخريف، فزاد استغرابنا طبعاً وقلنا ما هذا الخريف
الممطر. وبما أننا كنا بشهر سبتمر ودخلنا على شهر أكتوبر قل استعمال كلمة الخريف وانشغلنا
بالتدريس إلى ان اقترب شهر يونيو واقترب موعد السفر وهنا تكثر الأسئلة حول
"هل انتم مسافرون للأردن أم باقون".
هذه السنة ولاعتبارات مالية صرف قررنا البقاء في صلالة وعدم السفر، وأصبحنا
نفصح عن عدم السفر لمن يسأل، وهنا بدأت أسطوانة الخريف مرة أخرى. لقد ازداد شوقنا لنتعرف على هذا الخريف
الممطر!! سافر الرفاق من صلالة بشهر يونيو و بقينا لوحدنا و أذكر اننا كنا
الوحيدين بالعمارة التي تتكون من خمسة طوابق. وبدأنا رحلتنا مع الخريف.
شاءت إرادة المولى جل وعلا أن يبدأ هذا الخريف مبكرا كما يقولون أي قبل
الموعد المعروف عندهم، وبدأ بداية طيبة؛ إذا اختفت الشمس وبدأت الأمطار الخفيفة
وإن كانت أقل رقة بالجبل. هذه الأيام لمن
يعيشها بحقها أيام متعة فعلا، فكانت أيام سهر بالليل ونوم بالنهار. كنت أتجول يوميا بالسيارة الحمراء من شمال صلالة
إلى جنوبها و شرقها إلى غربها بساعة واحدة فقط، أصبحت عادة عندنا أن نتجول هذا
التجوال اليومي.
لقد كانت معظم رحلاتنا إلى ما يُعرف هنا بالجبل و إن كنت أخشى الصعود هناك
لارتفاعه وخطورة الطريق في ذلك الوقت؛ و مع ذلك ذهبت إليه مرات قليلة لأنني كنت لا
أحبذ الذهاب هناك، لهذا كنت اقتصر الرحلة على منطقة إتّين. فما هي إتّين.
إتّين منطقة مفتوحة بين المدينة
والجبل تكثر فيها التلال الصغيرة على شكل القباب، ولكونها تقع بين الساحل و الجبل
فتعتبر منطقة تنزه رائعة من حيث هواؤها العليل على مختلف أوقات السنة وخاصة ليلاً,
ولكنها بالخريف تعتبر من المناطق الرئيسة للتنزه لأنها مسقط الأمطار الخفيفة
(الرذاذ) بخلاف الجبل الذي يكون مسقطا للأمطار الغزيرة هناك. لهذا تجد السهرات تحت هذا الرذاذ إلى أوقات
الصباح.
كانت الرحلات تنظم مع من بقي من الأصحاب ولم يسافر إلى الأردن وأذكر منهم
بشكل محدد الأستاذ زكي النمرات من صما و تبعه بالسنوات اللاحقة صهره حيث كنا نخرج
سويا، كذلك كان هناك الأستاذ على الزغول من عجلون و الأستاذ أبو حسان من الأشرفية. وكثيراً ما كنا نخرج بهذه الرحلات سويا لنشوي
اللحم بالجبل أو إتّين أو أرزات أو المغسيل التي جاء ذكرها بالجزء الخاص بالأماكن
السياحية.
و بما أن الأفكار ساقتنا إلى الحديث عن اللحوم أيام زمان فمن المفيد التذكر
أن كيلو اللحم الصومالي أو الاسترالي كان بريال عماني فقط، ولهذا يسهل تصور كميات
اللحم التي كانت تُستهلك في تلك الفترة. وكذلك
تعرفنا على لحم الحوار (صغير الجمل) وأصبحنا نتبادل الأحاديث حول موضوع اللحوم أثناء عمليات شوي
اللحم (الهش و النش) التي لا أتقنها للأسف لهذه اللحظة.
و من طرائف الأكل وما شابه ذلك أننا كنا نبذل جهدا للحصول على البقدونس أو
الكزبرة في تلك الأيام وكانت غير معروفة تماماً.
وأذكر كذلك أن عقلية أحد الأصحاب قد تفتقت عن استعمال ورق الفجل لفرمه مع
اللحمة لغايات الكباب. وكثيراً ما كان
الهنود ( وهي العمالة السائدة في تلك الفترة) لا يقبلون بفرم أي شيء مع اللحوم،
وبعد إقناع أحدهم بفرمها بعد أن يلوي شفته تعجباً من هذا العالم (نحن) الذي يفرم
الأوراق والبصل و البقدونس مع اللحم، وكان يفرمها على طريقة واحدة وهي الأوراق و
البصل أولا ثم اللحم حتى لا تبقى الروائح في الماكينة. هذه الأيام تغير كل شيء بعد النهضة التجارية
الكبيرة ودخول عمالة أخرى غير الهندية ونتيجة اطلاعهم على ما يجري بأنحاء أخرى من
العالم فأيقنوا أن هناك عالماً آخر وشعوبا أخرى تفرم البقدونس مع اللحمة؛ فهذه
الأيام يتوفر البقدونس والبصل ليفرم مع اللحم بدون لوي الشفاه.
و بما أن الشيء بالشيء يُذكر أيضاً لا بد من التنويه كذلك باستحالة الحصول
على الكوسا الصغير للحشي مع اللحمة، وعندما نسأل عن الكوسا نُعطي الكوسا الكبير
جدا، فالحجم عندهم لا يفرق لأنهم يستعملونه بما يعرفونه هنا بالصالونه و هي المرق،
و الحديث ما يزال عن أوائل التسعينيات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق