الأربعاء، 28 ديسمبر 2016

الكلية المتوسطة للمعلمين بصلالة

الفصل الأول

الكلية المتوسطة للمعلمين بصلالة

كان الدخول إلى الكلية المتوسطة للمعلمين بصلالة احتفالياً بالنسبة لي. توجهنا بصحبة الأستاذ جميل مناصره للكلية المتوسطة للمعلمين بصلالة، تسبقني أفكاري حول الكلية والأبنية والمختبرات والأجنحة حيث أن الأستاذ جميل أخبرني بالأردن أنها كلية على الطراز الحديث، فرسمت لها صورة كأنها جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية.  وعندما دخلنا الكلية وجدتها عبارة عن مبنيين فقط أحدهما للجناح الإداري والأكاديمي معاً، و الآخر للسكن والمطعم الذي يقدم وجباته لطلاب السكن الداخلي،  ومسجد صغير إضافة لموقف السيارات.  كان هناك مختبر علوم ومختبر لغة إنجليزية بالجناح الأول.  وهذا كان يكفي على ما يبدو لأن عدد الطلاب لم يكن بالكبير.
  
وصلتُ الكلية وأذكر أنني قابلت بعض المدرسين من الأخوة المصريين ثم عرّفني الأستاذ جميل على الدكتور رئيس القسم وهو الدكتور محمد العشماوي من مصر الشقيقة فرحب بيّ وبزميلي التونسي الأستاذ مسعود الجباهي أسعد الله أيامه والذي حضر معنا من مسقط، وشرح لنا عن القسم والمواد، وقال أنه يتوجب علينا في البداية أن نبدأ بالفاضل مسئول شئون الموظفين الذي رحب بنا وهو في وضع الجلوس، ودفع لنا بأوراق لإكمالها وطلب صوراً شخصية للمعاملات،  فأعطيته ست صورٍ كانت بحوزتي فضحك وقال لا لا بغينا واجد (الجيم تُلفظ بالطريقة المصرية)، وهنا تعرفت على أول كلمة باللهجة الظفارية وهي واجد بمعنى الكثير وهي نفس كلمة (وايد) بالكويتي.  و إذا أرادوا أن يبالغوا بالكمية قالوا واااااااااجد.  لهذا لم تكتمل معاملاتنا بنفس اليوم حتى نحضر الصور. طبعاً أكملنا المعاملة بعده بأيام بما فيها الهجرة والجوازات لوضع الإقامة على جواز السفر، واقتضى ذلك التبصيم ( أخذ البصمات) على الطريقة القديمة بالحبر الأسود وجدنا صعوبة بالغة بتنظيف يدينا منه لاحقاً.

انتقلنا بعدها لمقابلة مدير الكلية فلم يكن لقب عميد شائعاً في ذلك الوقت وهو المرحوم الأستاذ الدكتور حنفي إمام من مصر الشقيقة.  كان معي بالمقابلة زميلي الدكتور احمد العودات مدرس مادة التاريخ، والدكتور صلاح عيد أستاذ فيزياء نووية من مصر، وكانت زوجته  الدكتورة بكلية المعلمات فلم تكن الكليات مختلطة بتلك الفترة إضافة للأستاذ مسعود الجباهي.  حرص الدكتور حنفي على أن يرحب بنا على طريقته وأولها أنه لا يسمح أبداً بأن ينقل أحد كلاماً عن زميل آخر، ليتضح لنا لاحقاً أن شأنه شأن معظم المدراء يفتح أذنيه لمن يريد ويصدق من يريد، ومن يدري ربما كانت تلك الإشارة دعوة من لدنه لأن نمارس هذا الفعل، لكني لم ألتقط هذه الإشارة.

 وكذلك حرص في هذا الاجتماع أن يعرّفنا بأنه لديه جرس خفي يدوس عليه ليحضر بعدها الهندي محي الدين، وفعلاً دخل محي ليأمره أبو الأحناف بأن يعود من حيث أتى، فعاد الهندي.  ثم عرض لموضوع السكن فقال أننا يجب أن نصبر فالميزانية لم تكتمل بعد وأن شاء الله عن قريب سنحصل على فرش كامل، وحصلنا عليه فعلا بعد شهرين تقريباً أي قبل حضور الأسرة بأسبوع.  ثم لا بد لسعادة المدير أن يوضح (بشكل غير مباشر) لنا الطريقة التي يحب أن نعامله بها فقام بذلك عمليا (كمشهد تمثيلي) فاستدعى أستاذاً مصرياً جليلاً يحمل الدكتوراة بالكلية ليسأله عن موضوع معين، فرأينا أمام أعيننا مظاهر التبجيل والاحترام المبالغ فيه، وكأنه يحي رئيس جمهوريته؛ ولم نكن نسمع من الأستاذ المبجل إلا عبارة حاضر يا افندم.  هذا التوضيح لم يحظ منا بالاهتمام الكافي فافتعل موقفا حول السكن مع الدكتور صلاح (من مصر) تبادل الطرفان بعض العبارات القوية ولكنها بقيت ضمن الحدود انتهت بأن المدير كبر دماغه تجنباً لمواجهه مع الدكتور صلاح، وهذا دلنا على أن التعميم خطأ فادح، فما يقبل به البعض من الخنوع لا يقبل به آخرون.

لقد كانت النسبة الكبرى من المدرسين من مصر الشقيقة باعتبارها طبعا الأكثر سكاناً، تليها النسبة متقاربة بين الجنسيات الأردنية والسودانية والتونسية والمغربية.  أما الأخوة من أبناء بلدي الحبيب فكانوا كما يلي: الأستاذ محمود فضة أبو رياض مدرس اللغة العربية، و الأستاذ جميل مناصره مدرس لغة انجليزية، وهو زميل قديم من أيام الجامعة (1974 – 1978) وهو من أربد، والأستاذ عاطف جرادات من عمان وهو  مدرس رياضيات، والأستاذ خليل معايطه من الكرك وهو مدرس مادة التربية.  وهنا لا بد من شكر الأخوة الكرام على حفاوتهم بنا، فقد دعينا على الغداء عندهم جميعاً بدون استثناء بما فيهم الأستاذ جميل الذي كان أعزباً وليس على الأعزب حرج من الناحية الاجتماعية؛ فقد أكلنا أول أكلة سمك في صلالة عند الأستاذ جميل رتبها هو شخصياً. أما بقية الإخوة فقد كانت المناسف الأردنية سيدة الموقف طبعاً.
 
رغم أن الطلاب لم يكونوا موجودين بحكم العُطلة إلا أنني كنتُ متحفزاً للعمل والبحث عن البداية، وهنا عرفت الأستاذ المغربي وهو  مصطفى الموسوي منسق التربية العملية الذي قال "يا أساتذة بغيناكم تشرفوا على المتدربين بالمدارس"، فقلنا على الرحب والسعة، وكان نصيبي أن أشرف على طالب لغة عربية بمدرسة أنس بن مالك و هو الطالب (الدكتور الآن) عبد الله غواص، فاشرفتُ على سير تدريبه هناك، وبهذا كان الدكتور عبد الله غواص أول طالب قابلته. وبالمناسبة لم يكن التخصص مطلوباً بتلك الفترة لغايات التدريب باعتبار أن خلفيتنا تربوية ويمكن أن نشرف على كل المواد.  وكان هذا أول عمل أقوم به بعد وصولي. هذه الأيام يشغل الفاضل الدكتور عبد الله غواص منصب مدير مكتب التربية والتعليم بثمريت بمحافظة ظفار. بالمناسبة كان موضوع الخلفية التربوي الذريعة التي أصبحوا بتذرعون بها عندما يريدون تكليفنا بأعمال إضافيه.  لم نكن نمانع بهذا بالبداية فقد كنا سعداء جداً،  لكن عندما انقلب هذا الأمر كحجة لإعطاء البعض قسطاً من الراحة لنقم نحن بعملهم، كان هذا مرفوضاً داخلياً، ولكن كنا ننفذه طبعاً. 

وقد لاحظت أن بعض الإخوة من الزملاء يتعمد أن يُعطي عمله هالة قدسية وكأنه الوحيد الذي يستطيع القيام بهذا الأمر ويغضبُ جداً إن تدخل أحد بعمله هذا لأن الآخر سيفسد عليه عمله، وفي الحقيقة كان هذا وسيلة للحفاظ على لقمة العيش لاعتقاده انه ستنتهي خدماته (سيُفنش باللغة المحلية) بمجرد أن عرف الآخرون سر طبخته وهو ما يعرف بالانجليزية (Job Security).  وفي الحقيقة لم أجد عملا (إدارياً) لا يستطيع أن شخص آخر القيام به باستثناء المواد التخصصية طبعا.  وكان الأستاذ منسق التربية العملية من هؤلاء. 

كذلك يمكن تصنيف دكتورين محاضين فيقسم التربية والمناهج من مصر الشقيقة من هذا الصنف أيضاً، فقد كانا يصرفان وقتهما على ترتيب جدول الحصص أكثر مما يصرفانه على محاضراتهما بموافقة رسيمة من العمادة، وفي كل مرة وعند بداية كل فصل نمضي نصف الفصل ونحن نرتب تضاربات جدول الحصص لكثرتها، فكنا نحن من ننهي الجدول.  وكثيراً ما كانوا لا يذهبون لمحاضراتهم لأنهم شغّالين بالجدول.

 لقد كان الأخوة يتعمدان أن يسأل أحدهما الآخر سؤالاً أمام الحضور كمشهد تمثيلي " أيه يا دكتور: حنعمل أيه في جدول السنة الجاية، فيرد عليه والله يا دكتور شكلنا حانخذه معنا بالصيف لمصر و ربنا يسهل؛ فيتذمر الآخر الله يعني ما فيش أجازة السنة، يالله مش مهم" عند العودة من الإجازة نجد أن الجدول على حاله، وأشك أنه غادر درج الطاولة في صلالة أصلاً  ليبدأ نفس الموال : أخونا فين؟ بحضَّر بالجدول كحال حنفي بمسرحية (المتزوجون) حنفي فين بالمعمل: بيعمل ايه؟ بيحضر ذرّة".


  لقد عشنا أكثر من موقف درامي هزلي كهذه بأكثر من مناسبة، ولعل من المناسب أن أعرج على حفل التخريج عام 1991 الذي كان بقاعة مطعم المحيط (فندق الهلتون حالياً) على الشاطئ حيث كان تسليم الشهادات للطلاب الخريجين. ولقد كانت تواجه الطلاب مشكلة لا تذكر وهو غيابهم جماعياً قبل الامتحانات فهدد سعادة المدير بفصلهم ويعلم أن هذا الأمر ليس بيده، فالطلاب خريجون.  وعند بداية الحفل قام سعادته وقبل أن يبدأ بتسليم الشهادات قام وقال: "نحن مدير الكلية قررنا العفو عن الطلاب بموضوع الغياب" فصفقنا مع الطلاب له لا فرحاً بالقرار ولكن ضحكاً على المشهد الكوميدي، فقد استخدم حضرته الضمير "نحن" وهذا عادة لا يستخدمه إلا الرؤساء.  ومن هذه المواقف الكثير ولا مجال لحصرها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق