الاتجاه غرباً
أما إذا اخترنا الرجوع لصلالة والتوجه غرباً فإننا نكون باتجاه المغسيل وريسوت،
وهنا علينا أن نخرج من صلالة عن طريق دوار عوقد وأول ما نراه على يسارنا البحر،
حيث أنه قريب جداً لهذا الطريق ثم نتابع السير لنتوقف على اليسار أيضاً عند ما كان
يدعى مطعم المحيط و حاليا هو فندق
الهلتون.
و لهذه المنطقة من الذكريات الكثير، فقد كانت أول رحلاتي منفرداً بالسيارة
الحمراء إلى تلك المنطقة بصحبة العائلة الصغيرة بتلك الفترة، حيث كان الوقت
عصراً. حاولت التقدم بالسيارة جهة الشاطئ
فغاصت عجلاتها بالرمل وقد كان هذا يكفي لتعكير المزاج العام للرحلة طبعاً وكنا كما
يقول المثل (أول غزواته كسر عصاته) وانشغل فكرنا بكيفية الخروج من تلك المنطقة
التي لا يحضر لها الناس كثيراً في ذلك الوقت، فقد كانت الناس تحضر بنهاية الأسبوع
فقط وبشكل قليل في تلك المنطقة. حاولت عدة
مرات الخروج فأصبحت اغوص أكثر بالرمل وأوشكت عجلات السيارات على الاختفاء. هنا نزلت فرأيت في أعين الزوجة والأولاد (رغم
صغرهم) سؤالاً ( إذا كنت بعدك بتتعلم سواقة لماذا أحضرتنا إلى هنا) فانفقسنا
(تعبير أردني)، طبعاً لم نكن نعرف سيارات الدفع الرباعي بعد. ولكن و كما يقول الشاعر :
ضاقت فلما اشتدت حلقاتها فرجت و كنت أظنها لا تفرج
فجأة رآنا شاب عماني كان يقف بالمقابل ويبدو أنه كان جاهزاً لحضور عرس لأن
دشداشتة كانت في غاية الأناقة وتفوح منه رائحة العطر. تحرك هذا الشاب بسيارته وتقدم منا وقال ضاحكا
" أيش اللي صاير" وبدلاً من أن يلومنا على الدخول لهذه المنطقة كما يحصل
بالعادة أو يقدم النصيحة كما كان متوقعاً، وجدته و قد جثا على ركبتيه بعد رفع
الدشداشة قليلاً وأصبح يجرف الرمل بيديه وأنا أتفرج ببداية الأمر لجهلي بجدوى ما
يفعل لأنني لم أكن أتوقع أن تسفر هذه
الجهود عن شيئ، وبعد أن بانت إطارات السيارة قال لي إركب وارجع للخلف ببطىء و أنا
(أدفك) أي ادفعك. طلبتُ من زوجتي تسوق ودفعنا
المركبة للخلف إلى أن خرجنا. هذا الشاب لم
أره من قبل ولا بعد هذه الحادثة ولا أعرف لأي القبائل ينتمي لغاية هذه اللحظة. وبهذه المناسبة لا بد من الإشارة إلى أن الشباب
الظفاري هو غاية في المساعدة إن وجد إنسانا تقطعت به السبل. وقد حدث في عام 1997 أن نفذ مني البترول بعد
منتصف الليل ولا توجد محطة قريبة، فجعلتُ المدام خلف المقود أيضاً ودفعتها أنا وابني
محمد الذي كان في الصف السادس بتلك الفترة، وبينما نحن بهذا الأمر إلا وتوقفت
جانبي سيارة بها أربع شباب دفعوا إليَّ بقارورة ماء مملؤة بنزين وقالوا هذه تكفيك
للمحطة القادمة واختفوا دون أن ياخذوا ثمنها أو ينتظروا كلمة شكر. فبارك الله بهم
جميعاً.
ميناء ريسوت
وإذا استمرينا غرباً فإننا نتوقف
عند ميناء ريسوت الذي كانت تؤمه العائلات أيام العطل للتنزه على الشاطيء هناك. وكان هذا الأمر متيسراً لأن الميناء كان عبارة
عن ميناء صيد صغير قبل أن يتحول بداية القرن الحادي والعشرين إلى ميناء شحن
كبير. فقد كانت مياهه صافية ويسهل على
الأولاد اللعب بالماء هناك، لكن البحر لا تؤمن جوانبه إذا لم يكن أحد الأهل يتقن
السباحة. ولهذا قصة طريفة حدثت معنا.
ذات يوم توجهنا إلى ميناء ريسوت وجلسنا على الشاطئ قريباً من القوارب وتصادف
وجود أحد الصيادين الذي كان مشغولا بفكفة خيوط شبكته. وبينما كان محمد يسير بالماء على قدميه ويتصنع
السباحة لأنه لم يكن يتقنها بعد، رأيناه يصعد ويهبط وهو يقول الحقوني وينادي
وتقدمت جهته فجأة وأنا البس دشداشتي فوجدتي مثقلاً بعد أن تبللت بالماء ولم أستطع
التقدم بعد وأصبحتُ شبه مشلول الحركة عديم الحيلة إذ كنتُ أرى ابني يغرق
أمامي. فجأة تذكرتُ الشخص الذي يصلح شبكته
و ناديته (الحق الولد خيو، بلهجتنا الأردنية) فما كان منه الا ان قفز بالماء و بلمح
البصر كان يمسسك بمحمد و يخرجه بأمان إلى الشاطىء، فالشاطىء وإن بدا آمنا ساكنا إلا
أن الرمال متحركة تحت القدمين وإذا تحركت الرمال مُشَكِّلةً حفرة تحت قدميك لا
تدري عمقها وأنت بالماء يختل توزانك وربما تغرق بشبر ماي كما يقولون إذا لم تكن
تعرف السباحة.
كان هذا درساً لي لأسعى في تعليم
أبنائي السباحة لاحقا حيث تعلموا جميعا على يد شخص ساقته الصدفة البحتة لنا. ذات يوم، أخبرني صديق مغربي أن هناك عرض
للاشتراك في بركة فندق حمدان للسباحة فرحبتُ بالفكرة رغبة مني في تعليمهم
السباحة. تفاجأت أن البركة لا منقذ ولا مدرب
فيها وقالوا بأن السباحة على مسئولية الشخص نفسه، فقلت في نفسي لعلمهم يتعلمون
ذاتياً ومن هذا المغربي الذي قال أنه يعرف السباحة. بعد فترة من الزمن عرفت أن هذا المغربي لم يكن
جاداً بالمسبح ولكنه استمر بإرسال بناته إلى المسبح وكانوا من سن بناتي. بنفس الفترة حضر شخص تبين لاحقا أنه سبَّاح
محترف ومهني ومعه أولاده الصغار. كان هذا
الرجل بطبعه اجتماعياً يحب التعرف بالناس ويتحدث مختلف اللهجات، فالتف الأولاد
والبنات بالبركة حوله، ولأني صاحب حاجة سعيت للتعرف عليه وطلبت منه أن يعلم محمد
(ثالث اعدادي، وسمو صف سادس وجمانا صف ثاني) وبعد أقل من ساعة أو ساعتين وجدت
أولادي يشقون البركة من طرفها إلى طرفها سباحة مهنية دون (مخابطة بالماء) ولا يمكن
وصف شعوري بهذه اللحظة، إذ شعرت أنني انجزت شيئاً كبيراً ومُهِمَاً لهم. هذا الشخص اسمه أحمد العامري وهو طيب من بيت
طيب يحمل درجة الماجستير في الإدارة من بريطانيا.
وبالمناسبة فقد غادَرنا إلى بريطانيا بعد تعليم الأولاد، و كأن الله ساقه لهذه المهمة فقط.
نعود إلى ريسوت لأقول أنها أصبحت الآن ميناء كبيراً ترتادها السفن من ذوات
الأحجام الكبيرة وهو في تطور مستمر, و إذا
قررنا تجاوز ريسوت لنستمر غرباً فإننا نسير مسافة 20 كم بعدها لنصل إلى المغسيل،
هذا الساحل الرملي النظيف الرائع، نصله لنرتاح تحت المظلات التي أعدتها البلدية
لهذه الغاية. ترتاده العائلات كمتنفس
للأطفال والكبار ويأخذون غدائهم معهم لعدم وجود المطاعم قديماَ، وقلتها حالياَ ويعودون
بالمساء منهكين مسرورين بهذه الرحلة.
وتمتاز هذه المنطقة بصفاء بحرها إذ يخلو من الأمواج العنيفة باستثناء فصل
الخريف الذي يكون فيها البحر هائجاً. وعلى
العموم لا ينصح بالسباحة هناك حتى بغير الخريف كما حدثتكم عن ريسوت و السبب أنها
كلها رمال قد تتحرك تحت قدميك.
وعندما تُذكر المغسيل بالخريف لا
بد من التعريج على أهم معالم المغسيل وهي النوافير الطبيعية، وهي عبارة عن فتحات
بالصخور المحيطة بالبحر، وهذه الفتحات ناتجة عن عوامل جوية ولا دخل للإنسان بها
وتتصل مباشر بالبحر، لهذا تجد البحر يمتد تحت هذه الصخور ويضرب فيها بعنف وكلما
اشتد عنف الموج انطلق الماء من تلك الفتحات على شكل نافورة ترتفع بالسماء حسب قوة الموج تحت هذه الصخور.
وربما تكون على شكل هواء قوي. وسواء كانت
نافورة ماء أو هواء فهي تشكل متعة للزائر لتلك المنطقة.
كذلك تمتاز هذه المنطقة وبعض المناطق الساحلية بان بعض صخورها تطل على
البحر مباشرة دون شاطئ وتكون مرتفعة فيرتادها هواة صيد السمك من الوافدين، وقد
حدثت بعض الحوادث المؤلمة التي راح ضحيتها بعض الأخوة من الجنسيات العربية أو
الأجنبية نتيجة سقوطهم عن تلك الصخور. ومن
المؤسف أن هذه المناطق لا يمكن فيها التدخل البشري حتى لو كان الشخص يعرف السباحة
لعمقها أولا ولأن الموج قوي ولا يدع فرصة للسباح أن يمارس قدرته بالسباحة فيضربه بالصخور بقوة تفقده وعيه
وحياته لاحقاً.
تم افتتاح مطعم في شاطئ المغسيل وقد أكلنا فيه أكثر من وجبة سمك هناك ولكنه
أغلق لبُعده و أهمل الشاطئ ولم يعد كما كان عندما زرته بعد فترة ذات عيد. فقد عزمت العائلة على نزهة على شاطئ المغسيل ورفضت
أن تجهيز أي نوع من الطعام لأننا سنأكل في المطعم. للأسف وصلنا المغسيل فلم نجده
كما تركناه، عندها أصبحنا نبحث عن شيء نأكله فما وجدنا إلا كافتيريا صغيرة لا تتمتع
بمنظر للمطاعم، فطلبتُ للعائلة بعض الساندويتشات بعد أن طلبت المدام أكبر كميه من
الفلفل عليها لأن الفلفل يقتل أي جراثيم ربما تتواجد بالساندويتش. وعلى مبدأ الطيارين و من باب السلامة العامة لم
أتناول أي طعام حتى نضمن عدم حدوث مضاعفات قد تنتج عن تسمم مثلا.
زرتها قبل سنة تقريبا فوجدت فيها تطوراً كبيراً، ولا أدري كم سيستمر هذا
التطور و هل ستقفل الاستراحات هناك أم تستمر.
وأخيراً وكما أخبرتكم سابقا فربما تكون هناك من المناطق ما هو أجمل من تلك
التي زرتها ولكني للأسف لم أتمكن من زياراتها لأسباب أهمها عدم توفر وسيلة النقل
القوية ذات الدفع الرباعي في بداية حياتنا العملية بصلالة وعندما توفرت السيارة
لاحقا بفضل الله لم تعد النفس ترغب بالرحلات و التجول. كذلك لم تنظم رحلات للكليات التي عملت بها لهذه
المناطق باستثناء رحلة يتيمة عام 1993 إلى شاطئ
لطلاب السكن الداخلي بالكلية المتوسطة للمعلمين مع فريق الكشافة وقد أعطينا
حافلة لتقلنا إلى هناك لوعورة الطريق و لكن أثيرت نقطة من قبل مساعد المدير للشؤون
المالية بأن الكلية تغطي نفقات الأكل للطلاب وليس للمدرسين مما كان له أثر سلبي
عند المحاضرين الذاهبين وفكر بعضهم بالعودة لأنه أشعرهم بأنهم يتطفلون على طعام
الطلاب؛ لكن وكما يقول أخواننا المدرسين فقد (كبّر المدرسون دماغهم) وتجاهلوا
ملاحظة المساعد، و تمت الرحلة على خير.