الاثنين، 29 فبراير 2016

المتقاعد فرحات بيه

المتقاعد فرحات  بيه
أحاول في هذا المقال تسليط الضوء على جانب اجتماعي في حياة المتقاعد بالمراحل الأولى من التقاعد وخاصة المدني. فالقضية ليست راتباً معاشياً فقط؛ إنها أكبر من ذلك. وفي البداية دعوني أعرفكم بفَرحَات بيه وهو كما تدل كلمة بيه عليه مصري الجنسية. فالشخصية مصرية ولكن التقاعد شأن عام وربما كان في العالم العربي يشكل حالة فريدة.
فرحات بيه هو شخصية من شخصيات فلم (البيه البواب) بطولة الفنان القدير أحمد زكي رحمه الله.  فرحات (الفنان الرائع فؤاد المهندس) موظف كبير في إحدى المؤسسات؛ كان يعيش حياته كموظفٍ محترمٍ  (يشخط)  ويصيح بمن حوله كمسؤول كبير إلى أن جاء اليوم الموعود وهو المعاش أو ما نعرفه بلهجتنا بالتقاعد. رُفض طلبه بتمديد خدمته رغم توصية المسؤولين بتمديدها لأنه الموظف الذي ما تأخر يوماً عن موعده بحجة إفساح المجال للشباب.
أقام له زملاؤه بالعمل حفلة وداعٍ وصفوها بأنها كبيرة عكست حبهم للسيد فرحات بيه قال فيها (شاعر المؤسسة الكبير) قصيدة في مدحه كما جاء بالفلم هذا نصها.  طبعا القصيدة يمكن وصفها بأنها تنتمي للشعر (التخبيصي).
يا فرحات يا منوفي
يعجز عن وصفك الكلام
فقد كنت للطهارة عَلَماً
وللنزاهة إمام
قضيتَ عمرك بالوظيفة ولم تغتني
وخرجتَ منها يا مولاي كما خلقتني.
طبعا تعني عبارة يا مولاي كما خلقتني (أبيض) أو بدون مدخرات أو توفير لأن راتب المؤسسات هو من باب الستيرة للموظف فقط وليس للتوفير فكيف براتب التقاعد لاحقاً؛ فخرج من المؤسسة كما دخل: شأنه شان القارئ الكريم عندما يتقاعد إن كان موظفاً.
في ختام الاحتفال كانت هدية الاستاذ حندوسة (مدير المؤسسة) عبارة عن شهادات استثمار بقيمة ثلاثين جنيهاً مصرياً بالتمام والكمال وأنتم تعرفون ما قيمة الثلاثين جنيهاً؛ لكن ما باليد حيلة فزملاؤه بالعمل ليسوا بأفضل حال من حيث المرتب؛ فهم لا يملكون إلا ورقة التوت التي تستر عيوبهم المادية فقط.
عاد السيد فرحات للبيت فرحاً (أو هكذا ظهر لنا بالفلم) إلى البيت ليعلن الخبر بصوت تشوبه المرارة خاصة عندما رمى جانباً القصيدة، وكذلك عندما سألوه عن الهدية فقال ساخراً هي هدية الوطن يا بني.
ثم كان السؤال مباشرة والأهم من القائم على أعمال البيت والأسرة من حيث المصروف وهي المدام؛ وبعدين يا فرحات حتعمل أيه؟  فرد عليها بثقة يشوبها الخوف من الفشل:
ما تخافيش، أنا خبرة.  بكرة القطاع الخاص حيخطفني.
وتعبر هذه الجملة عن حال الموظف أثناء الخدمة؛ إذ يقع الموظف أثناء الخدمة تحت شعور أنه (إشي كبير) أحياناً فيعتقد كما اعتقد السيد فرحات بيه. وربما يكون كبيراً فعلاً وهو على كرسي المسؤولية؛ وربما تكون المسؤولية الكبيرة والأهمية  للكرسي وليس للموظف.
 مضت الأيام ولم يخطفه أحد من القطاع الخاص؛ وازدادت متطلبات الحياة وبدأ يفقد مع مرور الأيام أهم شيء في الوظيفة وهي البرستيج.  بدأ يظهر أمام البواب عاجزاً خاصة عندما رفض  دفع أجرة المصعد لحججٍ واهيةٍ وهي قلة احترام البواب له. وعرف قيمة ما فقد بالتقاعد عندما قال له صاحب العمارة لا أستطيع طرد البواب ولكن إن أردت أنت أن تترك العمارة فلك ذلك؛ أي أنه ضحى به ولم يضحي بالبواب.
 اضطرته ظروف  العمل أن يقبل بتأجير شقته مفروشة حتى يحصل على الأجرة المرتفعة؛ وبدأ يتودد  للبواب الذي كان يأنف من السلام عليه ويسمح لزوجته أن تقدم القهوة للبواب، ثم صعد ليسكن على السطوح جاراً للبواب مشتركاً معه بحمام واحد للعائلتين.  
كل هذا لا يهم؛ ما يهم أن السيد فرحات بمنظره الذي ما زال يحتفظ ببقية منه من أيام الوظيفة لفت نظر البواب عبد التواب فوقع فريسة له؛ فاستغله في عمليات نصب واحتيال على المواطنين ليأخذ فلوسهم بعمارات وهمية. وكان (قمة) السقوط عندما زور شخصية آخر ليحتال على صاحب أرض (ليلهفها) البواب برخص التراب.
لهذا ربما شكَّل بعض المتقاعدين صيداً سهلاً لأمثال عبد التواب البواب.  فتكثر مثلاً من المتصيدين لهم عبارات مثل عندي مشروع وبحاجة لشريك ليسقط في حفرة عميقة تأتي على مكافأة نهاية الخدمة إن بقي منها شيء.  للتوضيح طبعاً لا أشكك بدعوات الآخرين  ولكنها دعوة للمتقاعد أن لا يقع في مشروع لا يفهم فيه شيئاً فيناله (من الجمل أذنه) كما يقول المثل؛ هذا إذا حصل على الأذن فعلاً.
منذ سنوات وأنا أشاهد إعلانات على الفضائيات بالأردن عن شركات لا أستريح لها وقد كتبتُ عنها ذات يوم وهي أيضاً تطمع في مكافأة المتقاعد فيقع في حبالها. هي شركات ظاهرها التمويل وباطنها النظر لراتب المتقاعد. والأدهى من هذا والأخطر هو شراء راتب التقاعد المدني أو راتب الضمان؛ فيحصل على مبلغ ليدخل مشروعاً لا يفهم فيه شيئاً وعندها يكتشف أنه خسر الدنيا كلها.
هذه شخصية فرحات بيه. وهذا تصوري لحياة الموظف لما بعد التقاعد.  لا أدري إن كنت مصيباً أم لا ولا أستطيع الحكم مسبقاً فأنا حديث عهد بالتقاعد.  لا أرسم صورة قاتمة طبعاً ولا أشكك بكل أصحاب المشاريع ولكنها دعوة للمتقاعد أن يكون حذراً جداً.  وبالمناسبة ربما يكون لدى القارئ الكريم صوراً أكثر بشاعة من صورة فرحات بيه.
وكل عام والمتقاعدين مدنيين عسكريين  بألف خير.








الجمعة، 26 فبراير 2016

تكريم الأوفياء


في يوم الثامن من يناير كان اللقاء مع الأوفياء  وهم الزملاء العرب من مركز اللغة الانجليزية الذين كنا وإياهم مجموعة نسهر سوياً في منطقة الجربيب  لتناول العشاء وتبادل الأحاديث والطرائف في ليال مقمرة دائماً.
اتصل في الاستاذ ياسر اليافعي ليخبرني عن اللقاء أعلاه فظننتها جلسة عادية كالتي سبقتها فلبيت الدعوة شاكراً لهم ذلك.  حضرت وحضر الزملاء يتقدمهم الأستاذ هاشم الذهب رئيس القسم فإذا باللقاء لقاء تكريم من المجموعة بالإضافة طبعاً.
وقف الأستاذ هاشم وقال من القول أفضل ما يمكن أن يقال في مثل هذه المواقف متذكراً أياماً خلت وذكريات سلفت.  ثم قدم لي درع القسم "مركز اللغة الانجليزية" هدية لي.  شكرتم وعبرت عن سروري بالهدية  فأي شيء يمكن أن يقال بمثل هذه المواقف.
جلسنا وكان ألم الفراق يخيم على الجلسة فأخذت زمام المبادرة ببضع الحديث الذي كما نتحدث فيه زمان، فسُر الشباب بذلك وكانت جلسة رائعة.

أشكر الاستاذ هاشم والصحب الكرام كلٌ باسمه على هذا التكريم الرائع.  

مع الصور  





الخميس، 25 فبراير 2016

يوم التقاعد


يوم التقاعد

الأول من شهر نوفمبر تشرين الثاني عام 2015 بدأت صباحي متقاعداً من سلك العمل العام محاضراً في الكلية التقنية بصلالة سلطنة عُمان بسبب بلوغ السن القانوني (60 سنة). تقاعد المغترب يعني أن يأخذ مكافأته عن سنوات الخدمة ويعود إلى بلده محملاً بالذكرىات؛ إذ لا راتب تقاعدياً للمغترب.
وللتوثيق فقد جاءني الإشعار بهذا القرار قبل موعده بسنة ونصف حتى أستعد لهذا اللحظة. وفي الحقيقة عيش هذه اللحظة لا يقارن أبداً بالحديث عنها. فالحديث سهل جداً لأنه يأخذ الجانب النظري؛ في حين عيشها يحتاج إلى وقت لاستيعاب التغيير الجديد؛ فليس من السهل أن تتصور نفسك بالبيت وزملاؤك بالعمل لا لشيء إلا أنك أصبحت على الرف؛  نعم هي على الرف طبعاً وإن كان المنظرون يحاولون دائما أن يأطروها بإطار جميل.
وفي أجواء التقاعد  الذي أعيشه الان أحاول أن أجد لنفسي تبريراً جميلا بأنني أستحق الراحة رغم أنني بصحة ممتازة بفضل الله، ولكني أذكر نفسي بأنني كنت استعد لهذا بأن أعلنت لكل من حولي قبل سنتين تقريباً بابتهاج أنني أقارب على الستين. فلا أظن أن أحداً ممن حولي لم يعرف بهذا الخبر. لقد كان الإعلان عنه بمثابة الاحتفال حقاً.  في حين أن من حولي من الزملاء لا يعرف أحد حقيقة عمرهم رغم أن بعضهم يقارب على السبعين من عمره. يبقى السؤال لماذا يذهب ابو الستين ويبقى أبو السبعين.  هذا ما ربما سأعرج عليه  لاحقاً.
إضافة لهذا الجو الاحتفالي أظن ربما وبين سطرين ربما كنت استبق خبر عودتي للاردن بإعطاء السبب حتى لا يخطر ببالي من يقابلني بأن سبب عودتي هو إنهاء الخدمة أو ما يعرف بالتفنيش، ولكنه بلوغ السن القانوني. ولقد ضحكتُ كثيراً عندما لم تمدد لي خدمتي لسنة أو أكثر إضافية كما حدث مع غيري فقلت ربما كنت حسدت نفسي بنفسي.  وربما كان من قبيل ما يعرف بالانجليزي (   NEGATIVE THOUGHTS BRING NEGATIVE THINGS ) كما قالت ابنتي لأخيها ذات مرة بنقاش بينهما حول قضية معينة.  أنا كنت في جو التقاعد نفسياً فكيف يمكن أن يمدد لمن يعد نفسه للتقاعد. فالأفكار السلبية تؤدي أحياناً إلى نتائج سلبية.
حتى نبرئ ذمتنا أمام أنفسنا وعائلاتنا ودرءً لأي سؤال أو استفسار أقول أنني تقدمت قبل سنة بطلب لتمديد خدمتي أسوة بالزملاء؛ سمعنا الكثير من الكلام الطيب وقرأنا ببعض المراسلات ما نفخر به ولكن مشيئة الله كانت أن لا يمدد لي ويمدد لزملائي.  وكنت أحاول طيلة مدة  إقامتي  أن أحصل على سبب مقنع لماذا رفض طلبي ولم  يرفض طلب غيري إلا أن كل ما سمعت لا يصمد أمام النقاش العقلي أبدا ولكن يعجبني تفسير العُمانيين لمثل هذه الأمور " سبحان الله" وهكذا كانت النتيجة.
وبما أن الشيء بالشيء يُذكر وربما أيضا من قبيل الأفكار السلبية  تؤدي الى نتائج سلبية أذكر أنني  ورغم الوعد من الوزارة بأن استمر بالعمل حتى يتابع موضوعي لتلافي الاشكال الذي حصل إلا أنني صدعت بأمر العمادة بالكلية بأن أتوقف عن العمل بتاريخ التقاعد إلى أن يأتي خبرٌ من الوزارة؛ فقمت بتنظيف المكتب وأخذ أشيائي الخاصة وغادرت المكتب وأذكر تعليقاً للزميلة خيار العمري يا أستاذ طلال انت راجع (ليش كذا) وتعني لماذا أخذت كل شيء؛ فأجبتها سيعود كل شيء  إلى مكانه عندما نعود إن شاء الله. 
لكن جزاهم الله خيرا بالكلية بأن أمهلوني حتى يُنهي الأولاد الدراسة في المدارس ولكن على نفقتي الخاصة؛ فغادرت سكن الحكومة وبدأت الصرف من مكافأتي الخاصة كما لو كنت ما زلت على رأس عملي.
وسلامتكو.  
 طبعا للحديث شجون ولكن ليس كل ما يعلم يقال وليس كل ما يقال كان وقته وليس كل من كان وقته حضر أهله.  باختصار أخذت بنصيحة زوجتي أم محمد  رفيقة الدرب بأن نتجاوز ما يكدر الخاطر ونحتفظ بالطيب من الذكريات للغربة في صلالة لمدة ربع قرن ففيها الكثير الكثير من الطيبات. 
وعزائي أنني عشت حياتي  في الغربة كما أريد.  كنت حاضراً (فعلاً لا جسما) في كل مجال حولي ولم أكن سلبياً أبداً.     

السيد فرحات بيه.  من هو السيد فرحات بيه ؟  ربما أحدثكم عنه لاحقا. 

الأربعاء، 24 فبراير 2016